مجتمع المعرفة والحكم الصالح في اليمن
د
خالد محسن الأكوع قسم العلوم السياسية جامعة
صنعاء
مقدمة:
كعادته في تخصيص قضية هامة من قضايا التنمية الإنسانية في العالم العربي، أفرد تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 قضية بناء مجتمع المعرفة والمعوقات والإشكالات التي تعترضها في المجتمعات العربية، على اعتبار أن المعرفة، هي أحد ثلاثة عناصر أساسية، تؤلف فيما بينها إستراتيجية التنمية الإنسانية في الوطن العربي التي يتبناها التقرير. فالمعرفة، اكتساباً وإنتاجاً وتوظيفاً، غدت في مطلع القرن الحادي والعشرين هي الوسيلة الكفيلة بتحقيق التنمية الإنسانية الشاملة في جميع المجتمعات المعاصرة.
ويطلق الآن، بصورة متزايدة، وصف "مجتمع المعرفة" للتعبير عن مجمل التغيرات الهائلة التي يشهدها المجتمع البشري في المرحلة الراهنة. ولهذا، يؤكد تقرير التنمية الإنسانية أن المعرفة بجميع أنواعها وصورها، قد غدت طريقا، لا سبيل إلى تجاوزه، لأي مجتمع يبتغى تحقيق التنمية في جميع مناحي الحياة. وأصبحت المعرفة، بصورة غير مسبوقة، محركا قويا يقف خلف معظم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يشهدها عالم اليوم. فالمعرفة هي غالبا ما ترسم الحدود بين القدرة والعجز، بين المنعة والوهن، بين الصحة والمرض، بين الثروة والفقر، بين العيش تحت براثن الجهل والتخلف وبين التحليق في ذرى المجد والفخار.
مجتمع المعرفة
قدرت المشيئة الألهية أن يخلق الإنسان وأن يكون خليفة الله في الأرض، يقول تعالى "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة". وقد اقتضى القيام بواجب الاستخلاف في الأرض أن يميز الله الإنسان بالعلم والمعرفة، قال تعالى" وعلم آدم الأسماء كلها" الذي سيكون وسيلته لإعمار الأرض والقيام بواجب الخلافة خير قيام.
وباعتباره الكائن المفكر الوحيد في هذا العالم، انشغل الانسان منذ الأزل بالتساؤل عن ما يحيط به في الكون والحياة من ظواهر طبيعية واجتماعية وانسانية وذلك بهدف الكشف عن القوانين والنواميس التي تحكم حركتها. فبقدر معرفته بالسنن والقوانين التي تحكم هذا الكون، استطاع الانسان، بدرجات متفاوتة من النجاح، تسخيرها لما يصلح بها حياته وبقاءه على هذا الكوكب.
فعبر إثارة كوامن ما أودعه الله في العقل البشري من طاقات، تتحرك تفاعلات العلم والمعرفة وتتطور مع تطور الحياة وتغير الظروف التي يعيشها الإنسان، فلا يمكن للإنسان ومن ثم المجتمع أن ينمو ويتطور في ظل سكون المعرفة وجمود العقل. وعندما يتوقف الإنسان عن اكتساب العلوم والمعارف المختلفة، يتوقف العقل عن التفاعل الحي مع تطور العالم الخارجي، ويصبح حينئذ عاجزا اكتساب الخبرات المفيدة ويفقد من ثم القدرة على إدراك الحياة إدراكا واعيا وسليما. فكما أن الجسم البشري يحتاج إلى الهواء والطعام والشراب للبقاء، تحتاج مسيرة المجتمع وتقدمه إلى اكتساب المعارف المتنوعة وتحصيل العلوم المختلفة التي تفتح للإنسان أبواب الخير والسعادة والنمو والازدهار.
وقد استطاع الإنسان، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، تسخير ما في الكون لما يصلح به حاضره ومستقبله. وكان شرط نجاحه دائما هو فهم ومعرفة السنن والنواميس التي تحكم الظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية المبثوثة في هذا الكون الفسيح. وهذا أمر مشروط بدرجة التطور الاجتماعى في اتجاه الوعي بأهمية الأخذ باسباب العلم ومناهل المعرفة.
وعبر هذا التاريخ الطويل، تراكمت المعلومات والخبرات والتجارب عبر ملايين السنين، والتى حصلها الإنسان عبر الاحتكاك العملى بينه وبين مختلف الظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية من حوله. وعبر الملاحظة والتجربة واستخدام المنهج العلمي والاستفادة من التراكم المعرفي وصل الإنسان إلى ما وصل إليه من تقدم مذهل فى علاقته بالطبيعة والكون والحياة.
وعلى هذا يمكن وصف مجتمع المعرفة، حسب ماجاء في تقرير التنمية الإنسانية بأنه "ذلك المجتمع الذي يقوم بصورة أساسية على إنتاج المعرفة ونشرها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: السياسة والاقتصاد والمجتمع المدني، وكذلك الحياة الخاصة، وصولا للارتقاء بالإنسان إلى بلوغ الغايات السامية التي يسعى اليها، والمتمثلة في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية".
محددات المعرفة:
من البديهي، أن تتأثر حدود المعرفة الإنسانية ومداها وعمقها بما حولها من مؤثرات عدة، على سبيل المثال:
مستوى الحضارة الإنسانية:
لاشك أن هناك علاقة قوية بين مستوى المعرفة والمستوى الحضاري الذي وصلت إليه البشرية في المراحل التاريخية المختلفة. وعادة ما يقاس مستوى الحضارة الذي وصلت إليه المجتمعات البشرية المتعاقبة من خلال دراسة مستوى التراكم المعرفي التي استطاعت تحقيقه. ويدل منحنى التاريخ الإنساني أنه كلما زاد رصيد المعرفة البشرية، كلما ارتقت مستويات الحضارة الإنسانية. فمن الصعوبة بمكان تحقيق أي انجاز حقيقي على صعيد الحضارات الإنسانية المتعاقبة من دون إحراز تقدم ملموس على صعيد المعرفة الإنسانية، فلولا معرفة أساليب البناء والعمارة لما تمكن اليمنيون، على سبيل المثال، من إقامة سد مأرب وبناء حضارتهم السبئية التالية التي خلدها القرآن في سورة سبأ.
ولهذا، نجد أن دراسة التاريخ الحديث تتم من خلال النظر إلى الثورات المعرفية الثلاث (الزراعية، الصناعية، المعلوماتية) التي شهدها العالم في الألفية الأولى، على اعتبار أن التطور المتسارع الذي شهدته البشرية خلال تلك الحقب التاريخية المتعاقبة تزامن مع نمو تصاعدي في مستوى المعرفة الإنسانية في جميع مجالاتها.
يؤكد المعاني السابقة، ما جاء في كتاب "فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول، المصادر، الآفاق المستقبلية"، الذي خلص إلى أن:
تاريخ الحضارة هو تاريخ العقل، وهو تاريخ البحث الإنساني، وهو تاريخ المناهج وطرق الاستدلال وحل المشكلات. إنه تاريخ البنى المعرفية وآفاقها ومجالاتها، وتاريخ تطور موقف الإنسان بكل امكانته العقلية من الطبيعة أو الكون الذي يعيش فيه ويحيط به. إنه تاريخ المدنية بكل اشكالها الحضارية، وأساليبها الفنية التي يبتكرها الإنسان للتفاعل مع بيئته تكيفا وتكييفا. وكما يقال، فإن تاريخ العلم والتفكير العلمي ومناهجه، وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات، هو التاريخ الحقيقي للإنسان، وصلب الحضارة وتواتراتها الصاعدة.(1)
مستوى الثقافة السائدة:
من الصعوبة بمكان أن يتقدم مستوى البحث العلمي في أي مجتمع لا يدرك أهمية العلم والعلماء في تقدم مسيرة المعرفة الإنسانية. فالبحث العلمي لا يؤتي ثماره في بيئة لا تقدر المعرفة حق تقديرها، فمن دون الإنفاق السخي على البحث العملي؛ ومن دون احترام العلماء وتقديرهم؛ لا يمكن أن يكون للعلم والمعرفة دوراً محورياً في مسيرة المجتمع. ويكفي هنا، أن نشير إلى أن أفول المسيرة العلمية خلال العصور الوسطى في أوروبا كان نتيجة مباشرة لاختفاء كل حياة ثقافية تقريبا، كنتيجة لانهيار الحضارة الرومانية في الغرب. وفي المقابل، كان الاهتمام بالعلوم المختلفة في العصور الزاهية للحضارة الإسلامية في نفس الفترة، مرتبطا بوجود ثقافة تقدر قيمة العلم وأهمية العلماء في حياة الأمة الإسلامية.
في كتابه القيم "المقدمات التاريخية للعلم"، تحدث توماس جولدشتاين عن علاقة الثقافة بتطور المسيرة العلمية قائلا:
يبدو أن التقلبات الكبرى في تاريخ العلم والمعرفة، صعودا وهبوطا، لاتحدث على الإطلاق على مستوى معزول بشكل رائع، بل تعكس الحركات الأساسية في المسار الواسع للتاريخ الثقافي. وكذلك تفعل بعض اتجاهاته وتجلياته الكبرى. وقد كانت الطريقة التي ينظر بها الناس للكون، والكيفية التي يدركون بها الأرض، مشروطة بشكل وثيق بوضعهم الثقافي، الذي كانت تحتمه منظومات السببية التي تحكم التدفق الواسع للأحداث التاريخية.(2)
وكما هو معروف، أن المجتمع العربي يمر الآن بأسوء فترة من تاريخه المعاصر، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بقضية المعرفة. فالواضح أننا قد نسينا في العالم العربي، حكاما ومحكومين، أن اسلافنا قادوا، في يوم من الايام، مسيرة العلم والمعرفة في العالم؛ وكانوا بحق حملة مشاعل الحضارة والنور التي أضاءت العالم باسره وقادته إلى ذرى الخير والسعادة. فعندما نعود إلى تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 نجد أنه قد رسم صورة قاتمة لوضع المعرفة في العالم العربي في الفترة الراهنة قائلا:
إن المعرفة تبدو طريدة في البلدان العربية الآن، بل تقوم عقبات مجتمعية تحول دون قيام مجتمع المعرفة. ونخشى أن يؤدي دوام الاتجاهات الراهنة إلى تهميش دور المعرفة في المجتمعات العربية. بما ينطوي عليه من استمرار تدني الرفاه الإنساني في الوطن العربي، ويقلل من فرص بناء التنمية الإنسانية في ربوعه. هذا على حين يتحول العالم المتقدم إلى مجتمعات كثيفة المعرفة، إنتاجا واستهلاكا، مما قد يمكن لبعضها أن يستغل تفوقه المعرفي في فرض هيمنة من نوع جديد، خيوطها حريرية ولكن قبضتها فولاذية، وبناء عليه فإن النتيجة المنطقية لاستمرار غياب المعرفة عن الوطن العربي ليست أقل من كارثية. النتيجة المتوقعة هي استمرار العرب في موقع هامشي من تاريخ البشرية القادم.(ص161)
مستوى البحث العلمي:
هناك علاقة متبادلة بين تراكم المعرفة وبين مستوى البحث العلمي، إذ كلما تقدم مستوى البحث العلمي، كلما ارتادت المعرفة الإنسانية آفاقا غير مسبوقة تجعل المجتمعات الإنسانية المختلفة أكثر قدرة على تحقيق النمو والازدهار والتقدم. فبرغم أن جميع الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية أو الإنسانية قد تكون واحدة عند الأقدمين والمحدثين، بل قد يكون الاهتمام هو نفسه بهذه أو تلك من الظواهر عند هؤلاء وأولئك. ولكن الفارق الجوهري هو فارق معرفي من حيث محتوى المعرفة ومنهج البحث المستخدم، إذ كلما تحسن مستوى البحث العلمي، كلما شهد العالم تراكم معرفي نوعي يساهم بدوره في رفع مستوى الحياة البشرية وتقدمها في جميع المجالات.
ونستطيع أن نرى أثر ذلك في الدول المتقدمة التي هيئت للعلم أسبابه وللعلماء المكانة التي يستحقونها، فتقدمت بذلك مسيرة المعرفة فيها وبلغت شعوبها مستويات من الرقي والتقدم لم تبلغها تلك الدول التي غيبت العلم من حياتها وتجاهلت عن عمد حق علمائها عليها. وتقدم اليابان في الوقت الحاضر مثلا حيا على أمة تمكنت من خلال تقدير العلم والعلماء، بالرغم من افتقارها إلى المصادر الطبيعية، تحقيق ما يطلق عليه "المعجزة اليابانية" التي أصبحت محط إعجاب العالم وتقديره.
وعلى هذا الصعيد أيضا، يسجل العرب للأسف إخفاقاً آخر، يضاف إلى سلسلة الإخفاقات التي يعانون منها في الفترة الراهنة من تاريخهم، إذ يتسم واقع العلم والتقنية في العالم العربي بالمحدودية، فكما يتضح من المؤشرات الأساسية التي ساقها التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2003 أن الدول العربية التي يشكل سكانها أكثر من 4% من إجمالي سكان المعمورة تحتل المرتبة الأخيرة بين المجموعات السكانية في العالم على صعيد الإنفاق على البحث العلمي وعدد براءات الاختراع وحقوق التصنيع.
ويشدد تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 على أن تدني مستوى الإنفاق على البحث العلمي وعدم الاهتمام بمراكز البحث والتطوير وتخلفها عن نظيراتها في البلدان المتقدمة في الفترة الراهنة قد أدى إلى قصور في فعالية البحث العلمي الرصين عن تهيئة المناخ المعرفي والمجتمعي اللازمين لإنتاج المعرفة. فالعلم والمعرفة صنوان لا يفترقان ولا ينفصلان، فما تقدم أحدهما إلا بتقدم الأخر.
وفيما يتعلق بالبنية التحتية لصناعة المعلومات العربية، يذكر التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2003 أنه بالرغم من أن الدول العربية قد خطت خطوات حثيثة على صعيد توفير خدمات الإنترنت مما أدى إلى زيادة استخدامه بشكل ملحوظ، إلا أن تطور استخدامات الإنترنت يعتبر ضعيفا بشكل واضح في الدول العربية حيث تقدر نسبة مستخدميه في الدول العربية بحوالي 1.29% من إجمالي السكان مقارنة بالمعدل العالمي 5.2%.
ومن الطبيعي، أن تلعب السلطة السياسية في أي مجتمع دورا جوهريا في توجيه المجال المعرفي وتقدمه أو تخلفه، وذلك حسب طبيعة تلك السلطة، والمخزون المعرفي الذي تحمله، فكلما كانت السلطة تقدر العلم والعلماء حق قدرهم، كلما ازدهرت مسيرة العلم والمعرفة وارتادت آفاقا غير مسبوقة. وفي هذا السياق، يرى التقرير أن السلطة السياسية في البلدان العربية تعمل على تدعيم النمط المعرفي الذي ينسجم مع توجهاتها وأهدافها، وهي بالتالي تحارب الأنماط المعرفية التي تتعارض مع التوجهات العامة التي تتبناها. وذلك ما يفسر، في نظر التقرير، الصراع المعرفي في المجتمعات العربية باعتباره صيغة للصراع حول السلطة السياسية، حيث لا يمكن للسلطة السياسية القائمة أن تتعايش مع معرفة مناهضة لتطلعاتها، ولهذا هي تسعى بكل الوسائل الممكنة لترسيخ النمط المعرفي الذي يتطابق مع طموحاتها.
وهكذا، يصور التقرير الصراع السياسي في الوطن العربي على أنه صراع ذو طبيعة معرفية يعكس النظام المعرفي للسلطة السياسية الحاكمة والمنسجم مع طموحاتها، والذي يشكل الخلفية الفكرية التي تحدد علاقاتها مع الأنظمة المعرفية المخالفة أو المعارضة من ناحية؛ والمنظومة المعرفية السياسية المعارضة التي تتطابق مع منطلقاتها وأهدافها في الصراع السياسي والمعرفي مع السلطة السياسية والمعرفية الرسمية، من الناحية المقابلة. وفي هذا السياق، يلفت التقرير النظر إلى أن قراءة متأنية لبعض التقارير الإستراتيجية للأحزاب أو للجمعيات أو للتكتلات السياسية التي تعج بها بعض البلدان العربية تفصح عن تبنى بعضها النمط المعرفي الرسمي، بل ويعتبر كثير منها مساند للسلطة السياسة القائمة، سواء انخرط فيها أم لم ينخرط، بينما يتبنى البعض الآخر أنماطا معرفية مناهضة لهذه السلطة ويتخذ موقعا معارضا لها، ومن ثم لمنظومتها المعرفية والقيمية.
غير أن التقرير، لا يضع كل اللوم في تأخر مسيرة المعرفة في العالم العربي على الأنظمة العربية وحدها، بل يرى أن تفريط فئة واسعة من النخبة العربية في مجال استقلالية المجال المعرفي هو الذي أدى إلى هيمنة الأنظمة السياسية العربية عليها، حيث مكنها من استقطاب وتوجيه عدد من المثقفين نحو تبني المفاهيم والرؤى التي تخدم توجهاتها. الأمر الذي أدى، من وجهة نظر التقرير، إلى بروز نزعات تبريرية في أوساط بعض المثقفين عملت على تعزيز الشرعية للسلطة السياسية القائمة. فالمثقفين العرب الذين تمكنوا من الوصول إلى دائرة صنع القرار لم يصلوا إلى ذلك بفضل علمهم أو استقلالهم الفكري، بل بسبب مهاراتهم في التغلغل والانخراط في السلطة السياسية. ورغم ذلك، يهمش أولئك المثقفون عندما تحتاج السلطة السياسية إلى مشورة بشأن الخيارات السياسية التي تقوم على الدراية والعلم، حيث يفضل الحاكم في هذه الحالات، ولأسباب تاريخية واقتصادية وسياسية، أهل العلم من خارج البلاد على المفكرين المحليين.
ويخلص التقرير إلى أن الوصول إلى مجتمع المعرفة يرتبط أساسا بإطلاق حرية الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح الذي يتجسد من خلال المشاركة الشعبية الفاعلة والقادرة على التأثير على مسار القرارت الحكومية التي تمس حياة المواطنين عن طريق التأكيد على ضرورة توفر الشفافية والمساءلة الكفيلة بالحد من الفساد وتحجيم الفاسدين المؤطرة بمؤسسة قضائية نزيهة تعمل على ضمان سيادة القانون. وفي هذا السياق، يرى التقرير أنه لا يمكن الوصول إلى مجتمع المعرفة إلا من خلال التأكيد على الديموقراطية والحرية والمشاركة السياسية. جاء في التقرير:
تحقق، لاشك، انتاج علمي مهم في ظل حكم قهرية، خاصة في ميدان العلوم الطبيعية والدقيقة، وبالأخص ما اتصل منها بنظم التسليح، من خلال دعم قوي وتمويل سخي لهذه المجالات من قبل السلطة الحاكمة. كما يمكن تحقيق تقدم معرفي مهم في المجالات التقنية، مثل تطوير التقانة للإنتاج الاقتصادي في ظل دكتاتوية مستنيرة، كما حدث في كوريا الجنوبية. ولكن في مثل هذه الحالات لا يمتد الإنجاز المعرفي للعلوم الإنسانية والاجتماعية ولا للفنون وللآداب. وإن أفلتت ومضات رائعة من الإبداع الأدبي والفني تحت القهر، إلا أنها لا تجد سبيلا إلى عامة الناس، بسبب التضييق على نشر المعرفة، فلا تولد مثل هذه "الفلتات" إلا الاحباط لدي مبدعيها. كذلك لا تعم فائدة الإنتاج المعرفي هذا، المجتمعات المعنية بكاملها، أي لا يمتد الإنجاز المعرفي إلى تطوير جميع قطاعات المجتمع وتحسين الرفاه الإنساني للبشر جميعا.
مفهوم الحكم الصالح
يشير مفهوم الحكم الصالح (أو مايطلق عليه أحيانا الحكم الجيد أو الرشيد) إلى ممارسة السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية لإدارة شؤون بلد ما على جميع المستويات. وبمعنى أدق، ينصرف مفهوم الحكم الصالح إلى منظومة الحكم التي تعزز وتدعم وتصون رفاه الإنسان وتقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا سيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقراً وتهميشاً. وعلى ذلك يمكن تعريف الحكم الصالح الذي يستهدف تحقيق مصلحة عموم الناس في المجتمع (كما جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002) على أنه "نسق من المؤسسات المجتمعية، المعبرة عن الناس تعبيرا سليما، تربط بينها شبكة متينة من علاقات الضبط والمساءلة بواسطة المؤسسات، وفي النهاية بواسطة الناس.(ص102)
وبذلك، يشمل مفهوم الحكم الصالح جميع المؤسسات في المجتمع بحيث يشمل أجهزة الدولة وهئيات المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص. كما لا ينحصر مفهوم الحكم الصالح في الاهتمام بآثار التنمية الحالية، بل يشمل التنمية طويلة الأمد، والممتدة على مدى أجيال متعددة. وتتمثل أبعاد الحكم الصالح في حكم وسيادة القانون والشفافية والاستجابة والمشاركة والإنصاف والفعالية والكفاءة والمساءلة والرؤية الاستراتيجية.
ولإدراك تقرير التنمية الإنسانية بأن مفهوم الحكم الصالح السابق هو حالة مثالية لم يصل اليها مجتمع بشري حتى اللحظة، فإنه يدعو الدول المختلفة إلى تحديد أكثر السمات الأساسية أهمية من خلال بناء توافق مجتمعي عريض. فعلى سبيل المثال، يرى التقرير ضرورة توفر اتفاق مبدئي حول القضايا المجتمعية الأساسية مثل اختيار التوازن المطلوب بين الدولة وقوى السوق؛ أو بين السلطة والحرية؛ أو اختيار أفضل الأساليب والطرق الناجعة للوصول إلى مجتمع المعرفة والانخراط في العولمة الجديدة. الأمر الذي يستدعي بالضرورة توفر البنى السياسية والاجتماعية والسياسية القائمة على الحرية والمشاركة والمساءلة والشفافية والتي يمكن من خلالها تطبيق منظومة الحكم الصالح.
الجدير بالذكر، أن مقاربة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الواردة في تقارير التنمية الإنسانية العربية المتعاقبة، تقوم على دمج أهداف الحكم الصالح مع نموذج التنمية البشرية المستدامة. وفي هذا السياق، يرى الأمين العام للأمم المتحدة (كوفي أنان) أن "الحكم الصالح هو العامل الأهم الذي يمكن من محاربة الفقر وتعزيز التنمية".
وعلى هذا، يسعى نموذج التنمية الإنسانية المستدامة والمرتكز على منظومة الحكم الصالح إلى توسعة خيارات جميع فئات المجتمع، بما في ذلك الفئات الأكثر تهميشا مثل النساء والفقراء، مع الاهتمام في نفس الوقت بحق الأجيال القادمة في حياة كريمة، مع التشديد على تحقيق قدر أكبر من الدمج بين المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعلى مشاركة أكبر للقوى الفاعلة على الصعد المحلية والقومية والإقليمية والعالمية.
وفي هذا السياق، تؤكد تقارير التنمية الإنسانية العربية المتعاقبة على أهمية قيام نماذج الحكم الصالح على مقاربات وممارسات محلية تستلهم الطبيعة الخاصة بكل بلد على حده، مع التأكيد على ضرورة النظر بايجابية وانفتاح إلى التجارب الاقليمية والعالمية الناجحة. جاء في التقرير الذي بين أيدينا:
إن بناء التنمية الإنسانية يطلب إعمال إبداع اجتماعي، لايقدر عليه إلا أهل كل مجتمع عربي لأنفسهم، بأنفسهم، كما تدعو التنمية الإنسانية. ولذلك يكتفي التقرير برسم الملامح الرئيسية لما يمكن أن يعد رؤية استراتيجية، تنير الطريق لبناء التنمية الإنسانية، على أن تتعهدها القوى الحية في أي مجتمع عربي بالنقاش الجاد أولا، اختلافا قبل الاتفاق حين يكون مبررا، ثم لترى بعد ذلك ما هي فاعلة بشأنها. من غمار عملية الإبداع الاجتماعي هذه يمكن أن تنشأ حركة مجتمعية تقوم على إطلاق الطاقات البشرية الخلاقة في المجتمع المعني، وتوظفها بكفاءة في بناء التنمية الإنسانية.(ص161)
في الوقت نفسه، تؤكد تقارير التنمية الإنسانية المتعاقبة أيضا على ضرورة إعطاء الوقت اللازم لنضوج التجارب الوطنية في مجالات الحكم الصالح والتي لا يمكن الوصول اليها بين ليلة وضحاها. وفي هذا السياق، يؤكد التقرير على الشروط اللازمة للوصول إلى مجتمع المعرفة في العالم العربي بالقول:
ليست المساهمة الفعالة في إثراء المعرفة الإنسانية بالأمر الغريب على العرب والحضارة العربية، غير أن استعادة تلك المكانة المتميزة تتطلب مكافحة فعالة لإرث عصر انحطاط قد طال بأكثر مما يحتمل. ويقتضي تكامل نموذج عربي عام، أصيل، منفتح، ومستنير إصلاحات جوهرية في السياق المجتمعي لمنظومة المعرفة في البلدان العربية. (ص171)
الحكم الصالح في اليمن
أدركت الحكومة في اليمن أهمية الأخذ بمنظومة الحكم الصالح كأسس للاصلاح المالي والإداري المنشود. ويظهر ذلك من خلال التأكيد على ضرورة الأخذ بمنظومة الحكم الصالح في برنامج الحكومة الحالية كأسس للاصلاح المالي والإداري التي تنشده الحكومة. كذلك، نصت "استراتيجية التخفيف من الفقر" (2003-2005) على اعتماد منظومة الإدارة والحكم الصالح كأحد الاستراتيجيات الناجعة في سبيل التخفيف من ظاهرة الفقر في اليمن.
برنامج الحكومة
أكد برنامج الحكومة الحالية الذي تقدمت به إلى مجلس النواب لنيل الثقة في يونيو الماضي على أهمية الأخذ بمنظومة الحكم الصالح كأسس للاصلاح المالي والإداري التي تنشده الحكومة. ففي وصفه للاحوال الداخلية، أشار البرنامج إلى ضرورة سد بعض النواقص في بناء المنظومة المؤسسية المتكاملة للدولة اليمنية الحديثة في إطاراتها المركزية والمحلية وإلى التعامل بجدية مع الخلل الناجم عن ضعف الانضباط العام والاحتكام المطلق للقانون والنظام.
وبالفعل ركز برنامج الحكومة على جملة من الأركان الأساسية للحكم الصالح وعلى رأسها قضية إصلاح الخدمة المدنية، وذلك حتى يواكب الجهاز الاداري للدولة الاصلاحات الاقتصادية ويساعد على تسريع النمو وتحقيق التنمية، بالاضافة إلى تشجيع القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني للقيام بأدوارها في تحقيق النهضة المنشودة.
وقد شدد البرنامج أن تحديث وظيفة الدولة ودورها سيتم في سياق استراتيجي وفي إطار من العقلانية والرشد وكذلك من خلال متطلبات بناء نظام حديث للادارة العامة وجهاز حكومي قادر على القيام بوظيفته وتقديم خدماته بكفاءة عالية وكلفة اقتصادية أقل، وفي هذا السياق، أشار البرنامج إلى أن الحكومة سوف تواصل العمل على تنفيذ وتأصيل معايير الحكم الرشيد في جوانب المشاركة، الخضوع للمساءلة سيادة القانون الشفافية والقضاء على الفساد واللامركزية وذلك من خلال اتباع الخطوات والمعالجات التاليه:
• التنفيذ الحازم للتشريعات والقوانين ومواصلة تنفيذ برنامج تحديث الخدمة المدنية
• اعداد سياسة عامة لأجور ومرتبات العاملين في الجهاز الاداري للدولة والقطاعات المرتبطة به تعتمد معايير محددة للتوصيف الوظيفي وطبيعة ومكان العمل مع الاستفادة من التجارب الحديثة
• تشغيل برنامج التجديد في الخدمات العامة بهدف نشر مفاهيم الابتكار والتجديد والتطوير في اساليب واجراءات العمل وتقديم خدمات للمواطنين باسلوب متميز من حيث الجودة والوقت والكلفة واعداد نظام تبسيط الاجراءات واصدار دليل للخدمات الحكومية المقدمة بالاضافة إلى تهيئة اجهزة الخدمات العامة لتكون اكثر حساسية للرأي العام وتقيدا برغباته واتجاهاته
• تطبيق نظام البصمة والصورة البيولوجية للتخلص من ظاهرة الموظفين المزدوجين والوهميين في وحدات الجهاز الاداري للدولة والقطاعين العام والمختلط والسلك الدبلوماسي والسلطة القضائية والجهازين العسكري والامني وصناديق التقاعد والرعاية الاجتماعية و انشاء محاكم ادارية متخصصة وتعزيز دور الرقابة الداخلية ومجالس التأديب.
وفي هذا السياق، تم بالفعل اتخاذ بعض الخطوات في اتجاه تفعيل الطموحات الواردة في برنامج الحكومة. ففي مجال تحديث الخدمة المدنية، تم التأكيد على ضرورة تفعيل مشروع تحديث الخدمة المدنية حيث قام المشروع بالتالي:
أ- تفعيل مجموعات العمل في الجهات الحكومية التسع والتي تم اختيارها في المرحلة السابقة والتي شملت: رئاسة الوزراء، وزارة التخطيط والتعاون الدولي، وزارة الخدمة المدنية والتأمينات، وزارة الصحة العامة والسكان، وزارة الشئون الاجتماعية والعمل، الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، الهيئة العامة للطيران المدني والارصاد، مصلحة الجمارك، مصلحة الضرائب.
فمن أجل الوصول إلى إعادة البناء والهيكلة في الجهات الحكومية التسع السابقة، تم اختيار ثلاثة مرشحين تم تدريبهم من قبل مشروع الخدمة المدنية في أكثر من دورة تدريبية متخصصة في أكثر من بلد مثل بريطانيا ولبنان وكذا من خلال أوراق العمل التي قدمت في الملتقى الأول لإعادة البناء والهيكلة وذلك بهدف تكوين فرق محورية تقود جهود البناء والهيكلة في تلك الجهات.
كما قام مشروع تحديث الخدمة المدنية بانزال عروض المناقصات الخاصة بتأهيل شركات محلية وخارجية تقوم بدراسة جميع الاوضاع الإدارية والتنظيمية والقانونية المتعلقة بكل جهة من تلك الجهات الحكومية المختارة وتقديم التوصيات المتضمنة خطة عمل يتم الاتفاق عليها يتم بموجبها الشروع فعلا في برنامج إعادة البناء والهيكلة.
ب- على صعيد تبسيط الإجراءات الإدارية وتقديم خدمات حكومية متطورة، قام المشروع بالإعلان عن جائزة لأفضل وحدة إدارية تقدم خطة أو مشروع لأي خدمة إدارية بتكلفة أقل ووقت أقل بالإضافة إلى جائزة لأفضل مدير مشروع وجائزة للموظف المثالي.
ج - وفي مجال تطبيق نظام البصمة والصورة الهادف إلى التخلص من ظاهرة الاختلالات في الخدمة المدنية مثل الازدواج الوظيفي والتوظيف الوهمي، تم التعاقد مع الشركة المنفذة للبدء قريبا في التفيذ. وفي هذا السياق، صدر قرار جمهوري باعتماد النظام الجديد على جميع موظفي الحكومة في القطاعات المدنية والعسكرية والأمنية.
د- وفيما يتعلق بإعداد سياسة عامة لأجور ومرتبات العاملين في الجهاز الاداري للدولة، تم الانتهاء من الدراسة المتضمنة لاستراتيجية شاملة للاجور يتوقع اقرارها من قبل مجلس الوزراء في فبراير القادم.
استراتيجية التخفيف من الفقر
اعتمدت "استراتيجية التخفيف من الفقر" (2003-2005) منظومة الإدارة والحكم الصالح كأحد الاستراتيجيات الناجعة في سبيل التخفيف من ظاهرة الفقر في اليمن. جاء في الوثيقة:
إن توفر الحكم الجيد والادارة الكفؤة والمؤسسات المستجيبة لاحتياجات أفراد المجتمع يعتبر شرطاً ضرورياً لنجاح جهود التخفيف من الفقر، ولهذا ستسعى الحكومة لتطوير المجالات المتعلقة بهذا الجانب من خلال مقاربات متعددة هي:
• إصلاح الخدمة المدنية.
• تعزيز الديمقراطية.
• تطبيق القوانين والأنظمة.
• الدفع بالسلطة المحلية واللامركزية.
• دعم المؤسسات الحكومية والأهلية المناصرة للفقراء .
وبالرغم من تأكيد الحكومة على المضي في تطبيق منظومة الحكم الصالح، هناك من يرى عدم جدية الحكومة في الموضوع. فكما أوضح النائب السابق سعد الدين بن طالب في حوار مباشر مع جمهور "الصحوة نت" أن الحكومة وضعت مفهوم "الحكم الرشيد" في البرنامج دون إعطاء المكان المناسب والأهمية المناسبة حيث جاءت العبارة تحت عنوان "إصلاح الخدمة المدنية" وبلمحة سريعة دون شرح واضح لمعاني الحكم الرشيد، في الوقت الذي يرى أن المفهوم كان يجب أن يكون محور برنامج الحكومة. وأضاف النائب السابق أن المفهوم يتضمن كثيرا من القيم والمبادئ السياسية والإدارية التي تكفل حل كثير من المشاكل، وفي مقدمتها المشاركة في صنع القرار والاحتكام إلى القانون، مؤكدا في الوقت نفسه عدم تطبيق الحكومة منظومة الحكم الرشيد بصورة صحيحة.(3)
من جهته، أشار تقرير البنك الدولي والمعنون "النمو الاقتصادي في الجمهورية اليمنية: المصادر، العوائق، والامكانيات" الصادر عام 2002، إلى أن مستوى أداء بنية الحكم الصالح في اليمن كان ضعيفا، فحين تم تحديد مركز اليمن في دراسة كبيرة شملت (188) بلدا في العالم تمت في العام 2001 من خلال ستة ابعاد لاساليب الحكم المتبعة، جاءت اليمن ضمن مجموعة الدول التي تشكل 25% من العينة، والتي حصلت على أدنى مستويات.(ص 62، 63)
البناء السياسي والإداري لمجتمع المعرفة
المشاركة الفاعلة:
يقوم مفهوم الحكم الصالح، الذي تم تبنيه في تقارير التنمية الإنسانية العربية المتعاقبة،على أساس أن المجتمع القائم على المشاركة الفاعلة، في جميع مناحي الحياة، شرط مسبق للتنمية المستدامة والشاملة المرتكزة على المعرفة في عالمنا المعاصر. فالمشاركة الفاعلة تمكّن المجتمع من الاستخدام الأمثل لطاقات وقدرات أفراده وجماعاته المنظمة وذلك على نحو يمكن من خلاله الوصول إلى مجتمع المعرفة. فالمشاركة تتطلب إعطاء دور أكبر للمجتمع المدني، وتوجب تطبيق اللامركزية المالية والإدارية على صعيد الإدارة العامة أو الحكومية، بما يسمح في الأخير بقيام المواطنين بواجب المشاركة في بنية السلطة وفي امكانية التأثير على السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
ويتألف مفهوم التنمية الإنسانية الذي يقدمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والذي يشكل الأساس لمجتمع المعرفة الوراد في تقرير التنمية الإنسانية العربية من ثلاثة عناصر رئيسية هي:
تنمية الانسان: من خلال تعزيز القدرات البشرية المادية والمعرفية لكي يتمكن الناس من المشاركة الكاملة في مختلف نواحي الحياة ومن اكتساب المعارف الجديدة بسهولة ويسر.
التنمية من أجل الانسان: عن طريق توفير الفرصة لكل الناس للحصول على أو اكتساب حصة عادلة من المنافع الناتجة عن النمو الاقتصادي ومن المنافع الناتجة عن ثورة المعلومات ومجتمع المعرفة.
التنمية بالانسان: من خلال توفير الفرصة المناسبة لجميع أعضاء المجتمع للمشاركة في تنمية مجتمعهم وفي الاغتراف من نهر المعرفة الذي لاينقطع.
وفي هذا السياق، يرى تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 أن الإنسان هو معيار الأشياء جميعا. فالإنسان، في منظور التنمية الإنسانية، هو وسيلة التنمية وغايتها ذلك أن اكتساب المعرفة هو القدرة البشرية الأساس في مفهوم التنمية الإنسانية.
وبطبيعة الحال، ترى هذه الرؤية المستنيرة للتنمية البشرية أن للناس الحق في أن تتاح أمامهم سبل متنوعة لممارسة السلطة ولاكتساب المزيد من مصادر المعرفة. وهكذا، تصبح المشاركة الفاعلة وسيلة وغاية في آن واحد.
والحقيقة، أن الآليات التي يمارس الناس نفوذهم من خلالها قد تتفاوت بصورة كبيرة بحسب الظروف الخاصة بكل مجتمع، فيمكن للناس كأفراد أن يدلوا بأصواتهم في الانتخابات أو أن يمارسوا الأنشطة التجارية، كما يمكنهم كجماعات أن يؤسسوا منظمات مجتمعية مختلفة الأنواع أو أن ينضموا إلى الاتحادات المهنية. الأمر الذي يجعل مستويات المشاركة المرتفعة للقدرات والإبداع البشري تعبيرا طبيعيا عن الحاجات الأصيلة في النفس البشرية، في الوقت الذي تسمح المشاركة للجماعات وللأفراد بأن يحققوا ذاتهم وأن يشعروا بالإنجاز الذي يجعل للحياة طعما ومذاقا خاصا.
المشاركة السياسية:
يرى تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 أن المنطقة العربية، مقارنة مع مناطق العالم الأخرى، تعاني من "نقص في الحرية" و"المشاركة السياسية". الأمر الذي يجعل الوصول إلى مجتمع المعرفة في العالم العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين أمرا في غاية الصعوبة. فبرغم من الاعتراف الدستوري الذي ضمنته دساتير البلدان العربية فيما يتعلق بالحقوق السياسية والمدنية لمواطنيها، إلا أن هذه الحريات كثيراً ما تغفل في الممارسة العملية. فالمشاركة الشعبية في البلدان العربية ما زالت هزيلة، حيث تغيب الديمقراطية التمثيلية الحقيقية في كثير من الأحيان وتقيد الحريات في أحيان أخرى. وبوجه عام، تتدنى مقاييس الحرية ومؤشرات التمثيل والمشاركة والمساءلة في المنطقة العربية مقارنة بباقي مناطق العالم.
ومع ذلك، لم يغفل التقرير الإشارة إلى أن هناك نوعا من المشاركة تمثلت في وجود بعض صور من حريات التعبير والتنظيم في بعض البلدان العربية بدرجات متفاوتة. فهناك مجالس منتخبة في كل من اليمن وقطر والكويت، كما أن هناك وعود لانتخاب في دول أخرى مثل الاردن والبحرين. وبالإضافة إلى ذلك تمت المصادقة على الميثاق الوطني للبحرين بأغلبية 98,4% في استفتاء وطني. وتعتبر هذه خطوة إلى الأمام باتجاه الديمقراطية، وضمان الحقوق السياسية والمدنية لجميع المواطنين.
وفيما يتعلق باليمن، نجد أن البلاد، ومنذ اعلان قيام الوحدة المباركة، قد خطت خطوات جادة في طريق الديموقراطية والتعددية والمشاركة السياسية مؤذنة بذلك قيام تجربة متميزة في المحيط العربي لفتت انظار العالم. تقول الناشطة في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان –إيريسجلوزماير- "بلغة الحرية، تعتبر اليمن متفردة في العالم العربي".(4) كذلك، جاء في يومية "اللوموند" الفرنسية، في عددها الصادر في الثامن من نوفمبر 2003 "إن الجمهورية اليمنية، تمثل استثناء في منطقة شبه الجزيرة العربية، وهي فضاء ديمقراطي، فالتعددية السياسية وحرية الصحافة وحقوق التجمع مضمونة كلها بالدستور الذي يعمل به منذ 1991م والذي تم تبنيه بعد وحدة البلاد."
ومع الاتفاق بأن الحالة اليمنية فيما يتعلق بقضية المشاركة السياسية تتشابه في بعض الملامح العامة السائدة في المجتمع العربي التي ذكرها تقرير التنمية الإنسانية، إلا أن هناك بعض الملامح التي تميز التجربة اليمنية في هذا المجال.في كتابه "التعددية السياسية في اليمن: أسس التجربة وحدود الممارسة"، خلص الباحث نشوان السميري إلى أنه:
قد يبدو من المقبول نظريا اعتبار عوائق المشاركة والممارسة الديموقراطية في اليمن بشكل عام شبيهة بالعوائق ذاتها في البلدان العربية ذات الأنظمة السياسية التعددية انطلاقا من واقع الانتماء الثقافي والحضاري الواحد. غير أن مبدأ الخصوصية يظل قائما بسبب حقيقة التفاوت والتنوع في الظروف وفي مراحل التطور الاجتماعي والسياسي للبلدان العربية.(5)
الوحدة والمشاركة السياسية:
استطاعت اليمن من خلال الوحدة تجاوز الجدل التقليدي القائم بين ثناية الوحدة والديموقراطية والتعددية السياسية في الوطن العربي حيث استطاع اليمنيون تحقيق حلمهم التاريخي في قالب سلمي وديموقراطي بهر العالم. ففي الوقت الذي لم تستطع شعوب ومجتمعات أخرى الحفاظ على وحدة كيانها وأرضها، كما حدث في يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، لم يكتف اليمنيون بالحفاظ على كيانهم الموحد فحسب بل استطاعوا في الوقت نفسه الاستمرار في مسيرة الديموقراطية والمشاركة الشعبية. وقد تجلى ذلك الأمر، في الاستفتاء على الدستور من قبل الشعب وإجراء الانتخابات النيابية لثلاث دورات متعاقبة، بطبيعة الحال بدرجات متفاوتة من النجاح.
يقول الباحث السميري متحدثا عن الخصوصية اليمنية في مجال الديموقراطية والمشاركة السياسية:
ولم يكن تزامن تاسيس الوحدة والتعددية اليمنية هو فقط ما ميز التجربة اليمينة بل كذلك في طريقة الانتقال الديموقراطي السلمية والمفاجئة. وقد أدى هذا التزامن بتلك الكيفية بالضرورة إلى توخي التوفيق بين متطلبات "التوحيد السياسي" ومراعاة واقع "التعدد"، والأخذ بعين الاعتبار لدى البدء في تنظيم التعددية السياسية والمشاركة السياسية عدم وقوع مفهومي الوحدة والتعدد في فخ التناقض ما أمكن عند التطبيق
وحتى عندما تعرضت الوحدة للتهديد والخطر بسبب محاولات الانفصال وشن الحرب، تزامن النصر على تلك المحاولات بالتأكيد على "الوحدة أو الموت" والاستمرار في درب الحرية والديموقراطية والتعددية السياسية كـ"ضمانة أكيدة للوحدة اليمنية".
التنمية والمشاركة السياسية:
من الأمور التي ميزت التجربة اليمنية على صعيد الديموقراطية والمشاركة السياسية، بالإضافة إلى ماسبق، أنها تمت في بيئة تتصف بضعف مستويات التنمية في مختلف المجالات، الأمر الذي يعد انجازا يمنيا خالصا، يضاف إلى رصيد انجاز الوحدة المباركة. ففي الوقت الذي لم تستطع دول أخرى اقليمية ودولية من البدء أو الاستمرار في انتهاج الديموقراطية والمشاركة السياسية بسبب التخلف وقلة الامكانات البشرية والمادية، استطاع المجتمع اليمني حتى الآن المضي بثبات في المسيرة الديموقراطية التي بدأت بتحقيق الوحدة، وذلك على الرغم من وجود كثير من العقبات والمعوقات التي تقف في طريق التنمية في البلاد . جاء في مقدمة كتاب "التحول الديمقراطي في اليمن: التحدي والاستجابة" مايلي:
يظل اليمنيون شعبا متميزا بين جيرانهم من حيث مستوى التعددية والمنافسة الحزبية الموجودة في البلاد. وكون هذا النشاط المدني والسياسي يحدث في بيئة تقليدية فقيرة هو مايجعله أمرا مثيرا ومشجعا.
ومع ذلك، ونتيجة لحداثة التجربة، فإننا لا يسعنا إلا القول بأن مسيرة الديموقراطية والمشاركة السياسية في اليمن تمضي في الواقع بين مد وجزر، فهي تتقدم إلى الأمام في جانب، وتتعثر في جانب آخر، كما هو الحال في كثير من التجارب الاقليمية والدولية. ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى ما جاء في تقرير التنمية البشرية في اليمن لعام 2001. يقول التقرير:
تطور المشاركة السياسية في اليمن يسير بالمراحل الطبيعية التي نجدها في كثير من الديموقراطيات الناشئة والتي تعكس تقلبات مجموعة من العوامل المرتبطة بالنظام السياسي وبالتنظيمات السياسية وبالمواطنين، إلا أن هذا التطور لم يصل بعد إلى مستوى التحول النوعي في طبيعة الثقافة السياسية وأشكال الوعي السياسي. ولازال العديد من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى التي ينظر اليها كآليات لتغيير الثقافة السياسية محكومة، وفي أحايين كثيرة، بأشكال ووعي سياسي تقليدي. ص66
وخلاصة القول في هذا المجال، أن اليمن، كغيرها من الدول الأخرى، لا يمكن الوصول فيها إلى التنمية الإنسانية المنشودة والتي ترتكز على المعرفة بغير مشاركة المواطنين الفاعلة في القرارات التي تخص جميع مناحي حياتهم. ولكي تكون المشاركة فعالة، يجب أن يتوفر لليمنيين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والحزبية، فرصة وافية ومتساوية لإدراج مطالبهم على جدول أعمال الحكومة، ولطرح همومهم تعبيرا عن الخيارات التي يفضلّونها كحصيلة نهائية لعملية صنع القرار الحكومي. وبغير ذلك، تظل الممارسة السياسية الموسمية شعارا يفتقر إلى أي مضمون حقيقي في واقع الحال.
ومثل هذه المشاركة السياسية الفاعلة المنشودة تستلزم بدورها قدر كاف من توزيع القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على نطاق واسع في المجتمع. فعن طريق التوزيع العادل لمصادر الثروة والتأثير، يمكن لليمنيين التأثير على الأداء الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات المحلية الذين ينتمون اليه وللأداء السياسي للحكومة بصورة عامة. وعبر هذا الأداء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتوازن والذي يستمد شرعيته من المشاركة الشعبية الفاعلة، يمكن القول عندها بأن اليمن قد بدأت بالفعل باتخاذ الخطوة الأولى في طريق العبور إلى مجتمع المعرفة واللحاق بركب الحضارة العالمية المعاصرة.
المجتمع المدني
يذكر تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 أنه يتوافر لدى معظم الدول العربية أطر قانونية خاصة بالجمعيات والهيئات السياسية وغير السياسية، وبالمنظمات غير الحكومية، وهيئات القطاع الخاص، والنقابات العمالية. وعلى وجه الخصوص، قوانين تأسيس الجمعيات الأهلية، وقوانين الصحافة، وقوانين الأحزاب السياسية في كل دولة. ومع ذلك، يشكو التقرير من أن الدولة في الوطن العربي تحاول أن تلتهم بصورة متزايدة المساحات التي يجب يحتلها المجتمع المدني. فالدولة في المجتمعات العربية تسعى للسيطرة على جميع ميادين النشاط الاجتماعي والتحكم بها وتوجيهها التوجيه الذي يخدم مصالحها في المقام الأول. وتأتي المؤسسات البحثية الخاصة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني في مقدمة الفعاليات الشعبية التي تسعى الأنظمة العربية إلى الهيمنة عليها، أو على الأقل تطويعها لمصالح هذا النظام السياسي أو ذاك.
وبالنسبة لليمن، يمكن القول بأن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني تمثل أحد الأركان الأساسية في منظومة الحكم في اليمن حيث أكد الدستور والقوانين النافذة على حق المواطنين في جميع أنحاء اليمن في المشاركة الشعبية بصورة مباشرة أو غير مباشرة من خلال أطر مؤسسية حديثة تتمثل في الأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات الشعبية والأهلية وغير الحكومية.
ونظرا للطبيعة المتشعبة لمنظمات المجتمع المدني فقد تعددت القوانين المنظمة لها، والتي من أهمها "قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية"، "قانون الأحزاب والتنظيمات والاتحادات التعاونية"، "قانون الصحافة والمطبوعات". وفي كل هذه القوانين، سعى المشرع اليمني إلى تحقيق نوعا من التوازن بين حرية الحركة التي يجب أن تمنح لمنظمات المجتمع المدني حتى تؤدي عملها على الوجه الذي أراده لها من قام بتأسيسها أو سعى للحصول على خدماتها من ناحية وبين الحاجة إلى نوع معين من الإشراف والرقابة على أنشطتها من قبل الأجهزة الحكومية من ناحية أخرى.
وعليه، فقد تضمنت مواد هذه القوانين الخاصة بمنظمات المجتمع المدني أشكالا متعددة للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني من حيث الدعم والتمويل والتكامل في الأداء والوظيفة لكل منهما. فضمن هذا الإطار القانوني، يتم تقديم الدعم المالي والعيني لمنظمات المجتمع المدني من قبل الحكومة، وفي مقدمتها الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية، وذلك وفقا للضوابط المحددة في القانون.
مقدمة:
كعادته في تخصيص قضية هامة من قضايا التنمية الإنسانية في العالم العربي، أفرد تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 قضية بناء مجتمع المعرفة والمعوقات والإشكالات التي تعترضها في المجتمعات العربية، على اعتبار أن المعرفة، هي أحد ثلاثة عناصر أساسية، تؤلف فيما بينها إستراتيجية التنمية الإنسانية في الوطن العربي التي يتبناها التقرير. فالمعرفة، اكتساباً وإنتاجاً وتوظيفاً، غدت في مطلع القرن الحادي والعشرين هي الوسيلة الكفيلة بتحقيق التنمية الإنسانية الشاملة في جميع المجتمعات المعاصرة.
ويطلق الآن، بصورة متزايدة، وصف "مجتمع المعرفة" للتعبير عن مجمل التغيرات الهائلة التي يشهدها المجتمع البشري في المرحلة الراهنة. ولهذا، يؤكد تقرير التنمية الإنسانية أن المعرفة بجميع أنواعها وصورها، قد غدت طريقا، لا سبيل إلى تجاوزه، لأي مجتمع يبتغى تحقيق التنمية في جميع مناحي الحياة. وأصبحت المعرفة، بصورة غير مسبوقة، محركا قويا يقف خلف معظم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يشهدها عالم اليوم. فالمعرفة هي غالبا ما ترسم الحدود بين القدرة والعجز، بين المنعة والوهن، بين الصحة والمرض، بين الثروة والفقر، بين العيش تحت براثن الجهل والتخلف وبين التحليق في ذرى المجد والفخار.
مجتمع المعرفة
قدرت المشيئة الألهية أن يخلق الإنسان وأن يكون خليفة الله في الأرض، يقول تعالى "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة". وقد اقتضى القيام بواجب الاستخلاف في الأرض أن يميز الله الإنسان بالعلم والمعرفة، قال تعالى" وعلم آدم الأسماء كلها" الذي سيكون وسيلته لإعمار الأرض والقيام بواجب الخلافة خير قيام.
وباعتباره الكائن المفكر الوحيد في هذا العالم، انشغل الانسان منذ الأزل بالتساؤل عن ما يحيط به في الكون والحياة من ظواهر طبيعية واجتماعية وانسانية وذلك بهدف الكشف عن القوانين والنواميس التي تحكم حركتها. فبقدر معرفته بالسنن والقوانين التي تحكم هذا الكون، استطاع الانسان، بدرجات متفاوتة من النجاح، تسخيرها لما يصلح بها حياته وبقاءه على هذا الكوكب.
فعبر إثارة كوامن ما أودعه الله في العقل البشري من طاقات، تتحرك تفاعلات العلم والمعرفة وتتطور مع تطور الحياة وتغير الظروف التي يعيشها الإنسان، فلا يمكن للإنسان ومن ثم المجتمع أن ينمو ويتطور في ظل سكون المعرفة وجمود العقل. وعندما يتوقف الإنسان عن اكتساب العلوم والمعارف المختلفة، يتوقف العقل عن التفاعل الحي مع تطور العالم الخارجي، ويصبح حينئذ عاجزا اكتساب الخبرات المفيدة ويفقد من ثم القدرة على إدراك الحياة إدراكا واعيا وسليما. فكما أن الجسم البشري يحتاج إلى الهواء والطعام والشراب للبقاء، تحتاج مسيرة المجتمع وتقدمه إلى اكتساب المعارف المتنوعة وتحصيل العلوم المختلفة التي تفتح للإنسان أبواب الخير والسعادة والنمو والازدهار.
وقد استطاع الإنسان، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، تسخير ما في الكون لما يصلح به حاضره ومستقبله. وكان شرط نجاحه دائما هو فهم ومعرفة السنن والنواميس التي تحكم الظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية المبثوثة في هذا الكون الفسيح. وهذا أمر مشروط بدرجة التطور الاجتماعى في اتجاه الوعي بأهمية الأخذ باسباب العلم ومناهل المعرفة.
وعبر هذا التاريخ الطويل، تراكمت المعلومات والخبرات والتجارب عبر ملايين السنين، والتى حصلها الإنسان عبر الاحتكاك العملى بينه وبين مختلف الظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية من حوله. وعبر الملاحظة والتجربة واستخدام المنهج العلمي والاستفادة من التراكم المعرفي وصل الإنسان إلى ما وصل إليه من تقدم مذهل فى علاقته بالطبيعة والكون والحياة.
وعلى هذا يمكن وصف مجتمع المعرفة، حسب ماجاء في تقرير التنمية الإنسانية بأنه "ذلك المجتمع الذي يقوم بصورة أساسية على إنتاج المعرفة ونشرها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: السياسة والاقتصاد والمجتمع المدني، وكذلك الحياة الخاصة، وصولا للارتقاء بالإنسان إلى بلوغ الغايات السامية التي يسعى اليها، والمتمثلة في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية".
محددات المعرفة:
من البديهي، أن تتأثر حدود المعرفة الإنسانية ومداها وعمقها بما حولها من مؤثرات عدة، على سبيل المثال:
مستوى الحضارة الإنسانية:
لاشك أن هناك علاقة قوية بين مستوى المعرفة والمستوى الحضاري الذي وصلت إليه البشرية في المراحل التاريخية المختلفة. وعادة ما يقاس مستوى الحضارة الذي وصلت إليه المجتمعات البشرية المتعاقبة من خلال دراسة مستوى التراكم المعرفي التي استطاعت تحقيقه. ويدل منحنى التاريخ الإنساني أنه كلما زاد رصيد المعرفة البشرية، كلما ارتقت مستويات الحضارة الإنسانية. فمن الصعوبة بمكان تحقيق أي انجاز حقيقي على صعيد الحضارات الإنسانية المتعاقبة من دون إحراز تقدم ملموس على صعيد المعرفة الإنسانية، فلولا معرفة أساليب البناء والعمارة لما تمكن اليمنيون، على سبيل المثال، من إقامة سد مأرب وبناء حضارتهم السبئية التالية التي خلدها القرآن في سورة سبأ.
ولهذا، نجد أن دراسة التاريخ الحديث تتم من خلال النظر إلى الثورات المعرفية الثلاث (الزراعية، الصناعية، المعلوماتية) التي شهدها العالم في الألفية الأولى، على اعتبار أن التطور المتسارع الذي شهدته البشرية خلال تلك الحقب التاريخية المتعاقبة تزامن مع نمو تصاعدي في مستوى المعرفة الإنسانية في جميع مجالاتها.
يؤكد المعاني السابقة، ما جاء في كتاب "فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول، المصادر، الآفاق المستقبلية"، الذي خلص إلى أن:
تاريخ الحضارة هو تاريخ العقل، وهو تاريخ البحث الإنساني، وهو تاريخ المناهج وطرق الاستدلال وحل المشكلات. إنه تاريخ البنى المعرفية وآفاقها ومجالاتها، وتاريخ تطور موقف الإنسان بكل امكانته العقلية من الطبيعة أو الكون الذي يعيش فيه ويحيط به. إنه تاريخ المدنية بكل اشكالها الحضارية، وأساليبها الفنية التي يبتكرها الإنسان للتفاعل مع بيئته تكيفا وتكييفا. وكما يقال، فإن تاريخ العلم والتفكير العلمي ومناهجه، وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات، هو التاريخ الحقيقي للإنسان، وصلب الحضارة وتواتراتها الصاعدة.(1)
مستوى الثقافة السائدة:
من الصعوبة بمكان أن يتقدم مستوى البحث العلمي في أي مجتمع لا يدرك أهمية العلم والعلماء في تقدم مسيرة المعرفة الإنسانية. فالبحث العلمي لا يؤتي ثماره في بيئة لا تقدر المعرفة حق تقديرها، فمن دون الإنفاق السخي على البحث العملي؛ ومن دون احترام العلماء وتقديرهم؛ لا يمكن أن يكون للعلم والمعرفة دوراً محورياً في مسيرة المجتمع. ويكفي هنا، أن نشير إلى أن أفول المسيرة العلمية خلال العصور الوسطى في أوروبا كان نتيجة مباشرة لاختفاء كل حياة ثقافية تقريبا، كنتيجة لانهيار الحضارة الرومانية في الغرب. وفي المقابل، كان الاهتمام بالعلوم المختلفة في العصور الزاهية للحضارة الإسلامية في نفس الفترة، مرتبطا بوجود ثقافة تقدر قيمة العلم وأهمية العلماء في حياة الأمة الإسلامية.
في كتابه القيم "المقدمات التاريخية للعلم"، تحدث توماس جولدشتاين عن علاقة الثقافة بتطور المسيرة العلمية قائلا:
يبدو أن التقلبات الكبرى في تاريخ العلم والمعرفة، صعودا وهبوطا، لاتحدث على الإطلاق على مستوى معزول بشكل رائع، بل تعكس الحركات الأساسية في المسار الواسع للتاريخ الثقافي. وكذلك تفعل بعض اتجاهاته وتجلياته الكبرى. وقد كانت الطريقة التي ينظر بها الناس للكون، والكيفية التي يدركون بها الأرض، مشروطة بشكل وثيق بوضعهم الثقافي، الذي كانت تحتمه منظومات السببية التي تحكم التدفق الواسع للأحداث التاريخية.(2)
وكما هو معروف، أن المجتمع العربي يمر الآن بأسوء فترة من تاريخه المعاصر، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بقضية المعرفة. فالواضح أننا قد نسينا في العالم العربي، حكاما ومحكومين، أن اسلافنا قادوا، في يوم من الايام، مسيرة العلم والمعرفة في العالم؛ وكانوا بحق حملة مشاعل الحضارة والنور التي أضاءت العالم باسره وقادته إلى ذرى الخير والسعادة. فعندما نعود إلى تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 نجد أنه قد رسم صورة قاتمة لوضع المعرفة في العالم العربي في الفترة الراهنة قائلا:
إن المعرفة تبدو طريدة في البلدان العربية الآن، بل تقوم عقبات مجتمعية تحول دون قيام مجتمع المعرفة. ونخشى أن يؤدي دوام الاتجاهات الراهنة إلى تهميش دور المعرفة في المجتمعات العربية. بما ينطوي عليه من استمرار تدني الرفاه الإنساني في الوطن العربي، ويقلل من فرص بناء التنمية الإنسانية في ربوعه. هذا على حين يتحول العالم المتقدم إلى مجتمعات كثيفة المعرفة، إنتاجا واستهلاكا، مما قد يمكن لبعضها أن يستغل تفوقه المعرفي في فرض هيمنة من نوع جديد، خيوطها حريرية ولكن قبضتها فولاذية، وبناء عليه فإن النتيجة المنطقية لاستمرار غياب المعرفة عن الوطن العربي ليست أقل من كارثية. النتيجة المتوقعة هي استمرار العرب في موقع هامشي من تاريخ البشرية القادم.(ص161)
مستوى البحث العلمي:
هناك علاقة متبادلة بين تراكم المعرفة وبين مستوى البحث العلمي، إذ كلما تقدم مستوى البحث العلمي، كلما ارتادت المعرفة الإنسانية آفاقا غير مسبوقة تجعل المجتمعات الإنسانية المختلفة أكثر قدرة على تحقيق النمو والازدهار والتقدم. فبرغم أن جميع الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية أو الإنسانية قد تكون واحدة عند الأقدمين والمحدثين، بل قد يكون الاهتمام هو نفسه بهذه أو تلك من الظواهر عند هؤلاء وأولئك. ولكن الفارق الجوهري هو فارق معرفي من حيث محتوى المعرفة ومنهج البحث المستخدم، إذ كلما تحسن مستوى البحث العلمي، كلما شهد العالم تراكم معرفي نوعي يساهم بدوره في رفع مستوى الحياة البشرية وتقدمها في جميع المجالات.
ونستطيع أن نرى أثر ذلك في الدول المتقدمة التي هيئت للعلم أسبابه وللعلماء المكانة التي يستحقونها، فتقدمت بذلك مسيرة المعرفة فيها وبلغت شعوبها مستويات من الرقي والتقدم لم تبلغها تلك الدول التي غيبت العلم من حياتها وتجاهلت عن عمد حق علمائها عليها. وتقدم اليابان في الوقت الحاضر مثلا حيا على أمة تمكنت من خلال تقدير العلم والعلماء، بالرغم من افتقارها إلى المصادر الطبيعية، تحقيق ما يطلق عليه "المعجزة اليابانية" التي أصبحت محط إعجاب العالم وتقديره.
وعلى هذا الصعيد أيضا، يسجل العرب للأسف إخفاقاً آخر، يضاف إلى سلسلة الإخفاقات التي يعانون منها في الفترة الراهنة من تاريخهم، إذ يتسم واقع العلم والتقنية في العالم العربي بالمحدودية، فكما يتضح من المؤشرات الأساسية التي ساقها التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2003 أن الدول العربية التي يشكل سكانها أكثر من 4% من إجمالي سكان المعمورة تحتل المرتبة الأخيرة بين المجموعات السكانية في العالم على صعيد الإنفاق على البحث العلمي وعدد براءات الاختراع وحقوق التصنيع.
ويشدد تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 على أن تدني مستوى الإنفاق على البحث العلمي وعدم الاهتمام بمراكز البحث والتطوير وتخلفها عن نظيراتها في البلدان المتقدمة في الفترة الراهنة قد أدى إلى قصور في فعالية البحث العلمي الرصين عن تهيئة المناخ المعرفي والمجتمعي اللازمين لإنتاج المعرفة. فالعلم والمعرفة صنوان لا يفترقان ولا ينفصلان، فما تقدم أحدهما إلا بتقدم الأخر.
وفيما يتعلق بالبنية التحتية لصناعة المعلومات العربية، يذكر التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2003 أنه بالرغم من أن الدول العربية قد خطت خطوات حثيثة على صعيد توفير خدمات الإنترنت مما أدى إلى زيادة استخدامه بشكل ملحوظ، إلا أن تطور استخدامات الإنترنت يعتبر ضعيفا بشكل واضح في الدول العربية حيث تقدر نسبة مستخدميه في الدول العربية بحوالي 1.29% من إجمالي السكان مقارنة بالمعدل العالمي 5.2%.
ومن الطبيعي، أن تلعب السلطة السياسية في أي مجتمع دورا جوهريا في توجيه المجال المعرفي وتقدمه أو تخلفه، وذلك حسب طبيعة تلك السلطة، والمخزون المعرفي الذي تحمله، فكلما كانت السلطة تقدر العلم والعلماء حق قدرهم، كلما ازدهرت مسيرة العلم والمعرفة وارتادت آفاقا غير مسبوقة. وفي هذا السياق، يرى التقرير أن السلطة السياسية في البلدان العربية تعمل على تدعيم النمط المعرفي الذي ينسجم مع توجهاتها وأهدافها، وهي بالتالي تحارب الأنماط المعرفية التي تتعارض مع التوجهات العامة التي تتبناها. وذلك ما يفسر، في نظر التقرير، الصراع المعرفي في المجتمعات العربية باعتباره صيغة للصراع حول السلطة السياسية، حيث لا يمكن للسلطة السياسية القائمة أن تتعايش مع معرفة مناهضة لتطلعاتها، ولهذا هي تسعى بكل الوسائل الممكنة لترسيخ النمط المعرفي الذي يتطابق مع طموحاتها.
وهكذا، يصور التقرير الصراع السياسي في الوطن العربي على أنه صراع ذو طبيعة معرفية يعكس النظام المعرفي للسلطة السياسية الحاكمة والمنسجم مع طموحاتها، والذي يشكل الخلفية الفكرية التي تحدد علاقاتها مع الأنظمة المعرفية المخالفة أو المعارضة من ناحية؛ والمنظومة المعرفية السياسية المعارضة التي تتطابق مع منطلقاتها وأهدافها في الصراع السياسي والمعرفي مع السلطة السياسية والمعرفية الرسمية، من الناحية المقابلة. وفي هذا السياق، يلفت التقرير النظر إلى أن قراءة متأنية لبعض التقارير الإستراتيجية للأحزاب أو للجمعيات أو للتكتلات السياسية التي تعج بها بعض البلدان العربية تفصح عن تبنى بعضها النمط المعرفي الرسمي، بل ويعتبر كثير منها مساند للسلطة السياسة القائمة، سواء انخرط فيها أم لم ينخرط، بينما يتبنى البعض الآخر أنماطا معرفية مناهضة لهذه السلطة ويتخذ موقعا معارضا لها، ومن ثم لمنظومتها المعرفية والقيمية.
غير أن التقرير، لا يضع كل اللوم في تأخر مسيرة المعرفة في العالم العربي على الأنظمة العربية وحدها، بل يرى أن تفريط فئة واسعة من النخبة العربية في مجال استقلالية المجال المعرفي هو الذي أدى إلى هيمنة الأنظمة السياسية العربية عليها، حيث مكنها من استقطاب وتوجيه عدد من المثقفين نحو تبني المفاهيم والرؤى التي تخدم توجهاتها. الأمر الذي أدى، من وجهة نظر التقرير، إلى بروز نزعات تبريرية في أوساط بعض المثقفين عملت على تعزيز الشرعية للسلطة السياسية القائمة. فالمثقفين العرب الذين تمكنوا من الوصول إلى دائرة صنع القرار لم يصلوا إلى ذلك بفضل علمهم أو استقلالهم الفكري، بل بسبب مهاراتهم في التغلغل والانخراط في السلطة السياسية. ورغم ذلك، يهمش أولئك المثقفون عندما تحتاج السلطة السياسية إلى مشورة بشأن الخيارات السياسية التي تقوم على الدراية والعلم، حيث يفضل الحاكم في هذه الحالات، ولأسباب تاريخية واقتصادية وسياسية، أهل العلم من خارج البلاد على المفكرين المحليين.
ويخلص التقرير إلى أن الوصول إلى مجتمع المعرفة يرتبط أساسا بإطلاق حرية الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح الذي يتجسد من خلال المشاركة الشعبية الفاعلة والقادرة على التأثير على مسار القرارت الحكومية التي تمس حياة المواطنين عن طريق التأكيد على ضرورة توفر الشفافية والمساءلة الكفيلة بالحد من الفساد وتحجيم الفاسدين المؤطرة بمؤسسة قضائية نزيهة تعمل على ضمان سيادة القانون. وفي هذا السياق، يرى التقرير أنه لا يمكن الوصول إلى مجتمع المعرفة إلا من خلال التأكيد على الديموقراطية والحرية والمشاركة السياسية. جاء في التقرير:
تحقق، لاشك، انتاج علمي مهم في ظل حكم قهرية، خاصة في ميدان العلوم الطبيعية والدقيقة، وبالأخص ما اتصل منها بنظم التسليح، من خلال دعم قوي وتمويل سخي لهذه المجالات من قبل السلطة الحاكمة. كما يمكن تحقيق تقدم معرفي مهم في المجالات التقنية، مثل تطوير التقانة للإنتاج الاقتصادي في ظل دكتاتوية مستنيرة، كما حدث في كوريا الجنوبية. ولكن في مثل هذه الحالات لا يمتد الإنجاز المعرفي للعلوم الإنسانية والاجتماعية ولا للفنون وللآداب. وإن أفلتت ومضات رائعة من الإبداع الأدبي والفني تحت القهر، إلا أنها لا تجد سبيلا إلى عامة الناس، بسبب التضييق على نشر المعرفة، فلا تولد مثل هذه "الفلتات" إلا الاحباط لدي مبدعيها. كذلك لا تعم فائدة الإنتاج المعرفي هذا، المجتمعات المعنية بكاملها، أي لا يمتد الإنجاز المعرفي إلى تطوير جميع قطاعات المجتمع وتحسين الرفاه الإنساني للبشر جميعا.
مفهوم الحكم الصالح
يشير مفهوم الحكم الصالح (أو مايطلق عليه أحيانا الحكم الجيد أو الرشيد) إلى ممارسة السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية لإدارة شؤون بلد ما على جميع المستويات. وبمعنى أدق، ينصرف مفهوم الحكم الصالح إلى منظومة الحكم التي تعزز وتدعم وتصون رفاه الإنسان وتقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا سيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقراً وتهميشاً. وعلى ذلك يمكن تعريف الحكم الصالح الذي يستهدف تحقيق مصلحة عموم الناس في المجتمع (كما جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002) على أنه "نسق من المؤسسات المجتمعية، المعبرة عن الناس تعبيرا سليما، تربط بينها شبكة متينة من علاقات الضبط والمساءلة بواسطة المؤسسات، وفي النهاية بواسطة الناس.(ص102)
وبذلك، يشمل مفهوم الحكم الصالح جميع المؤسسات في المجتمع بحيث يشمل أجهزة الدولة وهئيات المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص. كما لا ينحصر مفهوم الحكم الصالح في الاهتمام بآثار التنمية الحالية، بل يشمل التنمية طويلة الأمد، والممتدة على مدى أجيال متعددة. وتتمثل أبعاد الحكم الصالح في حكم وسيادة القانون والشفافية والاستجابة والمشاركة والإنصاف والفعالية والكفاءة والمساءلة والرؤية الاستراتيجية.
ولإدراك تقرير التنمية الإنسانية بأن مفهوم الحكم الصالح السابق هو حالة مثالية لم يصل اليها مجتمع بشري حتى اللحظة، فإنه يدعو الدول المختلفة إلى تحديد أكثر السمات الأساسية أهمية من خلال بناء توافق مجتمعي عريض. فعلى سبيل المثال، يرى التقرير ضرورة توفر اتفاق مبدئي حول القضايا المجتمعية الأساسية مثل اختيار التوازن المطلوب بين الدولة وقوى السوق؛ أو بين السلطة والحرية؛ أو اختيار أفضل الأساليب والطرق الناجعة للوصول إلى مجتمع المعرفة والانخراط في العولمة الجديدة. الأمر الذي يستدعي بالضرورة توفر البنى السياسية والاجتماعية والسياسية القائمة على الحرية والمشاركة والمساءلة والشفافية والتي يمكن من خلالها تطبيق منظومة الحكم الصالح.
الجدير بالذكر، أن مقاربة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الواردة في تقارير التنمية الإنسانية العربية المتعاقبة، تقوم على دمج أهداف الحكم الصالح مع نموذج التنمية البشرية المستدامة. وفي هذا السياق، يرى الأمين العام للأمم المتحدة (كوفي أنان) أن "الحكم الصالح هو العامل الأهم الذي يمكن من محاربة الفقر وتعزيز التنمية".
وعلى هذا، يسعى نموذج التنمية الإنسانية المستدامة والمرتكز على منظومة الحكم الصالح إلى توسعة خيارات جميع فئات المجتمع، بما في ذلك الفئات الأكثر تهميشا مثل النساء والفقراء، مع الاهتمام في نفس الوقت بحق الأجيال القادمة في حياة كريمة، مع التشديد على تحقيق قدر أكبر من الدمج بين المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعلى مشاركة أكبر للقوى الفاعلة على الصعد المحلية والقومية والإقليمية والعالمية.
وفي هذا السياق، تؤكد تقارير التنمية الإنسانية العربية المتعاقبة على أهمية قيام نماذج الحكم الصالح على مقاربات وممارسات محلية تستلهم الطبيعة الخاصة بكل بلد على حده، مع التأكيد على ضرورة النظر بايجابية وانفتاح إلى التجارب الاقليمية والعالمية الناجحة. جاء في التقرير الذي بين أيدينا:
إن بناء التنمية الإنسانية يطلب إعمال إبداع اجتماعي، لايقدر عليه إلا أهل كل مجتمع عربي لأنفسهم، بأنفسهم، كما تدعو التنمية الإنسانية. ولذلك يكتفي التقرير برسم الملامح الرئيسية لما يمكن أن يعد رؤية استراتيجية، تنير الطريق لبناء التنمية الإنسانية، على أن تتعهدها القوى الحية في أي مجتمع عربي بالنقاش الجاد أولا، اختلافا قبل الاتفاق حين يكون مبررا، ثم لترى بعد ذلك ما هي فاعلة بشأنها. من غمار عملية الإبداع الاجتماعي هذه يمكن أن تنشأ حركة مجتمعية تقوم على إطلاق الطاقات البشرية الخلاقة في المجتمع المعني، وتوظفها بكفاءة في بناء التنمية الإنسانية.(ص161)
في الوقت نفسه، تؤكد تقارير التنمية الإنسانية المتعاقبة أيضا على ضرورة إعطاء الوقت اللازم لنضوج التجارب الوطنية في مجالات الحكم الصالح والتي لا يمكن الوصول اليها بين ليلة وضحاها. وفي هذا السياق، يؤكد التقرير على الشروط اللازمة للوصول إلى مجتمع المعرفة في العالم العربي بالقول:
ليست المساهمة الفعالة في إثراء المعرفة الإنسانية بالأمر الغريب على العرب والحضارة العربية، غير أن استعادة تلك المكانة المتميزة تتطلب مكافحة فعالة لإرث عصر انحطاط قد طال بأكثر مما يحتمل. ويقتضي تكامل نموذج عربي عام، أصيل، منفتح، ومستنير إصلاحات جوهرية في السياق المجتمعي لمنظومة المعرفة في البلدان العربية. (ص171)
الحكم الصالح في اليمن
أدركت الحكومة في اليمن أهمية الأخذ بمنظومة الحكم الصالح كأسس للاصلاح المالي والإداري المنشود. ويظهر ذلك من خلال التأكيد على ضرورة الأخذ بمنظومة الحكم الصالح في برنامج الحكومة الحالية كأسس للاصلاح المالي والإداري التي تنشده الحكومة. كذلك، نصت "استراتيجية التخفيف من الفقر" (2003-2005) على اعتماد منظومة الإدارة والحكم الصالح كأحد الاستراتيجيات الناجعة في سبيل التخفيف من ظاهرة الفقر في اليمن.
برنامج الحكومة
أكد برنامج الحكومة الحالية الذي تقدمت به إلى مجلس النواب لنيل الثقة في يونيو الماضي على أهمية الأخذ بمنظومة الحكم الصالح كأسس للاصلاح المالي والإداري التي تنشده الحكومة. ففي وصفه للاحوال الداخلية، أشار البرنامج إلى ضرورة سد بعض النواقص في بناء المنظومة المؤسسية المتكاملة للدولة اليمنية الحديثة في إطاراتها المركزية والمحلية وإلى التعامل بجدية مع الخلل الناجم عن ضعف الانضباط العام والاحتكام المطلق للقانون والنظام.
وبالفعل ركز برنامج الحكومة على جملة من الأركان الأساسية للحكم الصالح وعلى رأسها قضية إصلاح الخدمة المدنية، وذلك حتى يواكب الجهاز الاداري للدولة الاصلاحات الاقتصادية ويساعد على تسريع النمو وتحقيق التنمية، بالاضافة إلى تشجيع القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني للقيام بأدوارها في تحقيق النهضة المنشودة.
وقد شدد البرنامج أن تحديث وظيفة الدولة ودورها سيتم في سياق استراتيجي وفي إطار من العقلانية والرشد وكذلك من خلال متطلبات بناء نظام حديث للادارة العامة وجهاز حكومي قادر على القيام بوظيفته وتقديم خدماته بكفاءة عالية وكلفة اقتصادية أقل، وفي هذا السياق، أشار البرنامج إلى أن الحكومة سوف تواصل العمل على تنفيذ وتأصيل معايير الحكم الرشيد في جوانب المشاركة، الخضوع للمساءلة سيادة القانون الشفافية والقضاء على الفساد واللامركزية وذلك من خلال اتباع الخطوات والمعالجات التاليه:
• التنفيذ الحازم للتشريعات والقوانين ومواصلة تنفيذ برنامج تحديث الخدمة المدنية
• اعداد سياسة عامة لأجور ومرتبات العاملين في الجهاز الاداري للدولة والقطاعات المرتبطة به تعتمد معايير محددة للتوصيف الوظيفي وطبيعة ومكان العمل مع الاستفادة من التجارب الحديثة
• تشغيل برنامج التجديد في الخدمات العامة بهدف نشر مفاهيم الابتكار والتجديد والتطوير في اساليب واجراءات العمل وتقديم خدمات للمواطنين باسلوب متميز من حيث الجودة والوقت والكلفة واعداد نظام تبسيط الاجراءات واصدار دليل للخدمات الحكومية المقدمة بالاضافة إلى تهيئة اجهزة الخدمات العامة لتكون اكثر حساسية للرأي العام وتقيدا برغباته واتجاهاته
• تطبيق نظام البصمة والصورة البيولوجية للتخلص من ظاهرة الموظفين المزدوجين والوهميين في وحدات الجهاز الاداري للدولة والقطاعين العام والمختلط والسلك الدبلوماسي والسلطة القضائية والجهازين العسكري والامني وصناديق التقاعد والرعاية الاجتماعية و انشاء محاكم ادارية متخصصة وتعزيز دور الرقابة الداخلية ومجالس التأديب.
وفي هذا السياق، تم بالفعل اتخاذ بعض الخطوات في اتجاه تفعيل الطموحات الواردة في برنامج الحكومة. ففي مجال تحديث الخدمة المدنية، تم التأكيد على ضرورة تفعيل مشروع تحديث الخدمة المدنية حيث قام المشروع بالتالي:
أ- تفعيل مجموعات العمل في الجهات الحكومية التسع والتي تم اختيارها في المرحلة السابقة والتي شملت: رئاسة الوزراء، وزارة التخطيط والتعاون الدولي، وزارة الخدمة المدنية والتأمينات، وزارة الصحة العامة والسكان، وزارة الشئون الاجتماعية والعمل، الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، الهيئة العامة للطيران المدني والارصاد، مصلحة الجمارك، مصلحة الضرائب.
فمن أجل الوصول إلى إعادة البناء والهيكلة في الجهات الحكومية التسع السابقة، تم اختيار ثلاثة مرشحين تم تدريبهم من قبل مشروع الخدمة المدنية في أكثر من دورة تدريبية متخصصة في أكثر من بلد مثل بريطانيا ولبنان وكذا من خلال أوراق العمل التي قدمت في الملتقى الأول لإعادة البناء والهيكلة وذلك بهدف تكوين فرق محورية تقود جهود البناء والهيكلة في تلك الجهات.
كما قام مشروع تحديث الخدمة المدنية بانزال عروض المناقصات الخاصة بتأهيل شركات محلية وخارجية تقوم بدراسة جميع الاوضاع الإدارية والتنظيمية والقانونية المتعلقة بكل جهة من تلك الجهات الحكومية المختارة وتقديم التوصيات المتضمنة خطة عمل يتم الاتفاق عليها يتم بموجبها الشروع فعلا في برنامج إعادة البناء والهيكلة.
ب- على صعيد تبسيط الإجراءات الإدارية وتقديم خدمات حكومية متطورة، قام المشروع بالإعلان عن جائزة لأفضل وحدة إدارية تقدم خطة أو مشروع لأي خدمة إدارية بتكلفة أقل ووقت أقل بالإضافة إلى جائزة لأفضل مدير مشروع وجائزة للموظف المثالي.
ج - وفي مجال تطبيق نظام البصمة والصورة الهادف إلى التخلص من ظاهرة الاختلالات في الخدمة المدنية مثل الازدواج الوظيفي والتوظيف الوهمي، تم التعاقد مع الشركة المنفذة للبدء قريبا في التفيذ. وفي هذا السياق، صدر قرار جمهوري باعتماد النظام الجديد على جميع موظفي الحكومة في القطاعات المدنية والعسكرية والأمنية.
د- وفيما يتعلق بإعداد سياسة عامة لأجور ومرتبات العاملين في الجهاز الاداري للدولة، تم الانتهاء من الدراسة المتضمنة لاستراتيجية شاملة للاجور يتوقع اقرارها من قبل مجلس الوزراء في فبراير القادم.
استراتيجية التخفيف من الفقر
اعتمدت "استراتيجية التخفيف من الفقر" (2003-2005) منظومة الإدارة والحكم الصالح كأحد الاستراتيجيات الناجعة في سبيل التخفيف من ظاهرة الفقر في اليمن. جاء في الوثيقة:
إن توفر الحكم الجيد والادارة الكفؤة والمؤسسات المستجيبة لاحتياجات أفراد المجتمع يعتبر شرطاً ضرورياً لنجاح جهود التخفيف من الفقر، ولهذا ستسعى الحكومة لتطوير المجالات المتعلقة بهذا الجانب من خلال مقاربات متعددة هي:
• إصلاح الخدمة المدنية.
• تعزيز الديمقراطية.
• تطبيق القوانين والأنظمة.
• الدفع بالسلطة المحلية واللامركزية.
• دعم المؤسسات الحكومية والأهلية المناصرة للفقراء .
وبالرغم من تأكيد الحكومة على المضي في تطبيق منظومة الحكم الصالح، هناك من يرى عدم جدية الحكومة في الموضوع. فكما أوضح النائب السابق سعد الدين بن طالب في حوار مباشر مع جمهور "الصحوة نت" أن الحكومة وضعت مفهوم "الحكم الرشيد" في البرنامج دون إعطاء المكان المناسب والأهمية المناسبة حيث جاءت العبارة تحت عنوان "إصلاح الخدمة المدنية" وبلمحة سريعة دون شرح واضح لمعاني الحكم الرشيد، في الوقت الذي يرى أن المفهوم كان يجب أن يكون محور برنامج الحكومة. وأضاف النائب السابق أن المفهوم يتضمن كثيرا من القيم والمبادئ السياسية والإدارية التي تكفل حل كثير من المشاكل، وفي مقدمتها المشاركة في صنع القرار والاحتكام إلى القانون، مؤكدا في الوقت نفسه عدم تطبيق الحكومة منظومة الحكم الرشيد بصورة صحيحة.(3)
من جهته، أشار تقرير البنك الدولي والمعنون "النمو الاقتصادي في الجمهورية اليمنية: المصادر، العوائق، والامكانيات" الصادر عام 2002، إلى أن مستوى أداء بنية الحكم الصالح في اليمن كان ضعيفا، فحين تم تحديد مركز اليمن في دراسة كبيرة شملت (188) بلدا في العالم تمت في العام 2001 من خلال ستة ابعاد لاساليب الحكم المتبعة، جاءت اليمن ضمن مجموعة الدول التي تشكل 25% من العينة، والتي حصلت على أدنى مستويات.(ص 62، 63)
البناء السياسي والإداري لمجتمع المعرفة
المشاركة الفاعلة:
يقوم مفهوم الحكم الصالح، الذي تم تبنيه في تقارير التنمية الإنسانية العربية المتعاقبة،على أساس أن المجتمع القائم على المشاركة الفاعلة، في جميع مناحي الحياة، شرط مسبق للتنمية المستدامة والشاملة المرتكزة على المعرفة في عالمنا المعاصر. فالمشاركة الفاعلة تمكّن المجتمع من الاستخدام الأمثل لطاقات وقدرات أفراده وجماعاته المنظمة وذلك على نحو يمكن من خلاله الوصول إلى مجتمع المعرفة. فالمشاركة تتطلب إعطاء دور أكبر للمجتمع المدني، وتوجب تطبيق اللامركزية المالية والإدارية على صعيد الإدارة العامة أو الحكومية، بما يسمح في الأخير بقيام المواطنين بواجب المشاركة في بنية السلطة وفي امكانية التأثير على السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
ويتألف مفهوم التنمية الإنسانية الذي يقدمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والذي يشكل الأساس لمجتمع المعرفة الوراد في تقرير التنمية الإنسانية العربية من ثلاثة عناصر رئيسية هي:
تنمية الانسان: من خلال تعزيز القدرات البشرية المادية والمعرفية لكي يتمكن الناس من المشاركة الكاملة في مختلف نواحي الحياة ومن اكتساب المعارف الجديدة بسهولة ويسر.
التنمية من أجل الانسان: عن طريق توفير الفرصة لكل الناس للحصول على أو اكتساب حصة عادلة من المنافع الناتجة عن النمو الاقتصادي ومن المنافع الناتجة عن ثورة المعلومات ومجتمع المعرفة.
التنمية بالانسان: من خلال توفير الفرصة المناسبة لجميع أعضاء المجتمع للمشاركة في تنمية مجتمعهم وفي الاغتراف من نهر المعرفة الذي لاينقطع.
وفي هذا السياق، يرى تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 أن الإنسان هو معيار الأشياء جميعا. فالإنسان، في منظور التنمية الإنسانية، هو وسيلة التنمية وغايتها ذلك أن اكتساب المعرفة هو القدرة البشرية الأساس في مفهوم التنمية الإنسانية.
وبطبيعة الحال، ترى هذه الرؤية المستنيرة للتنمية البشرية أن للناس الحق في أن تتاح أمامهم سبل متنوعة لممارسة السلطة ولاكتساب المزيد من مصادر المعرفة. وهكذا، تصبح المشاركة الفاعلة وسيلة وغاية في آن واحد.
والحقيقة، أن الآليات التي يمارس الناس نفوذهم من خلالها قد تتفاوت بصورة كبيرة بحسب الظروف الخاصة بكل مجتمع، فيمكن للناس كأفراد أن يدلوا بأصواتهم في الانتخابات أو أن يمارسوا الأنشطة التجارية، كما يمكنهم كجماعات أن يؤسسوا منظمات مجتمعية مختلفة الأنواع أو أن ينضموا إلى الاتحادات المهنية. الأمر الذي يجعل مستويات المشاركة المرتفعة للقدرات والإبداع البشري تعبيرا طبيعيا عن الحاجات الأصيلة في النفس البشرية، في الوقت الذي تسمح المشاركة للجماعات وللأفراد بأن يحققوا ذاتهم وأن يشعروا بالإنجاز الذي يجعل للحياة طعما ومذاقا خاصا.
المشاركة السياسية:
يرى تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 أن المنطقة العربية، مقارنة مع مناطق العالم الأخرى، تعاني من "نقص في الحرية" و"المشاركة السياسية". الأمر الذي يجعل الوصول إلى مجتمع المعرفة في العالم العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين أمرا في غاية الصعوبة. فبرغم من الاعتراف الدستوري الذي ضمنته دساتير البلدان العربية فيما يتعلق بالحقوق السياسية والمدنية لمواطنيها، إلا أن هذه الحريات كثيراً ما تغفل في الممارسة العملية. فالمشاركة الشعبية في البلدان العربية ما زالت هزيلة، حيث تغيب الديمقراطية التمثيلية الحقيقية في كثير من الأحيان وتقيد الحريات في أحيان أخرى. وبوجه عام، تتدنى مقاييس الحرية ومؤشرات التمثيل والمشاركة والمساءلة في المنطقة العربية مقارنة بباقي مناطق العالم.
ومع ذلك، لم يغفل التقرير الإشارة إلى أن هناك نوعا من المشاركة تمثلت في وجود بعض صور من حريات التعبير والتنظيم في بعض البلدان العربية بدرجات متفاوتة. فهناك مجالس منتخبة في كل من اليمن وقطر والكويت، كما أن هناك وعود لانتخاب في دول أخرى مثل الاردن والبحرين. وبالإضافة إلى ذلك تمت المصادقة على الميثاق الوطني للبحرين بأغلبية 98,4% في استفتاء وطني. وتعتبر هذه خطوة إلى الأمام باتجاه الديمقراطية، وضمان الحقوق السياسية والمدنية لجميع المواطنين.
وفيما يتعلق باليمن، نجد أن البلاد، ومنذ اعلان قيام الوحدة المباركة، قد خطت خطوات جادة في طريق الديموقراطية والتعددية والمشاركة السياسية مؤذنة بذلك قيام تجربة متميزة في المحيط العربي لفتت انظار العالم. تقول الناشطة في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان –إيريسجلوزماير- "بلغة الحرية، تعتبر اليمن متفردة في العالم العربي".(4) كذلك، جاء في يومية "اللوموند" الفرنسية، في عددها الصادر في الثامن من نوفمبر 2003 "إن الجمهورية اليمنية، تمثل استثناء في منطقة شبه الجزيرة العربية، وهي فضاء ديمقراطي، فالتعددية السياسية وحرية الصحافة وحقوق التجمع مضمونة كلها بالدستور الذي يعمل به منذ 1991م والذي تم تبنيه بعد وحدة البلاد."
ومع الاتفاق بأن الحالة اليمنية فيما يتعلق بقضية المشاركة السياسية تتشابه في بعض الملامح العامة السائدة في المجتمع العربي التي ذكرها تقرير التنمية الإنسانية، إلا أن هناك بعض الملامح التي تميز التجربة اليمنية في هذا المجال.في كتابه "التعددية السياسية في اليمن: أسس التجربة وحدود الممارسة"، خلص الباحث نشوان السميري إلى أنه:
قد يبدو من المقبول نظريا اعتبار عوائق المشاركة والممارسة الديموقراطية في اليمن بشكل عام شبيهة بالعوائق ذاتها في البلدان العربية ذات الأنظمة السياسية التعددية انطلاقا من واقع الانتماء الثقافي والحضاري الواحد. غير أن مبدأ الخصوصية يظل قائما بسبب حقيقة التفاوت والتنوع في الظروف وفي مراحل التطور الاجتماعي والسياسي للبلدان العربية.(5)
الوحدة والمشاركة السياسية:
استطاعت اليمن من خلال الوحدة تجاوز الجدل التقليدي القائم بين ثناية الوحدة والديموقراطية والتعددية السياسية في الوطن العربي حيث استطاع اليمنيون تحقيق حلمهم التاريخي في قالب سلمي وديموقراطي بهر العالم. ففي الوقت الذي لم تستطع شعوب ومجتمعات أخرى الحفاظ على وحدة كيانها وأرضها، كما حدث في يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، لم يكتف اليمنيون بالحفاظ على كيانهم الموحد فحسب بل استطاعوا في الوقت نفسه الاستمرار في مسيرة الديموقراطية والمشاركة الشعبية. وقد تجلى ذلك الأمر، في الاستفتاء على الدستور من قبل الشعب وإجراء الانتخابات النيابية لثلاث دورات متعاقبة، بطبيعة الحال بدرجات متفاوتة من النجاح.
يقول الباحث السميري متحدثا عن الخصوصية اليمنية في مجال الديموقراطية والمشاركة السياسية:
ولم يكن تزامن تاسيس الوحدة والتعددية اليمنية هو فقط ما ميز التجربة اليمينة بل كذلك في طريقة الانتقال الديموقراطي السلمية والمفاجئة. وقد أدى هذا التزامن بتلك الكيفية بالضرورة إلى توخي التوفيق بين متطلبات "التوحيد السياسي" ومراعاة واقع "التعدد"، والأخذ بعين الاعتبار لدى البدء في تنظيم التعددية السياسية والمشاركة السياسية عدم وقوع مفهومي الوحدة والتعدد في فخ التناقض ما أمكن عند التطبيق
وحتى عندما تعرضت الوحدة للتهديد والخطر بسبب محاولات الانفصال وشن الحرب، تزامن النصر على تلك المحاولات بالتأكيد على "الوحدة أو الموت" والاستمرار في درب الحرية والديموقراطية والتعددية السياسية كـ"ضمانة أكيدة للوحدة اليمنية".
التنمية والمشاركة السياسية:
من الأمور التي ميزت التجربة اليمنية على صعيد الديموقراطية والمشاركة السياسية، بالإضافة إلى ماسبق، أنها تمت في بيئة تتصف بضعف مستويات التنمية في مختلف المجالات، الأمر الذي يعد انجازا يمنيا خالصا، يضاف إلى رصيد انجاز الوحدة المباركة. ففي الوقت الذي لم تستطع دول أخرى اقليمية ودولية من البدء أو الاستمرار في انتهاج الديموقراطية والمشاركة السياسية بسبب التخلف وقلة الامكانات البشرية والمادية، استطاع المجتمع اليمني حتى الآن المضي بثبات في المسيرة الديموقراطية التي بدأت بتحقيق الوحدة، وذلك على الرغم من وجود كثير من العقبات والمعوقات التي تقف في طريق التنمية في البلاد . جاء في مقدمة كتاب "التحول الديمقراطي في اليمن: التحدي والاستجابة" مايلي:
يظل اليمنيون شعبا متميزا بين جيرانهم من حيث مستوى التعددية والمنافسة الحزبية الموجودة في البلاد. وكون هذا النشاط المدني والسياسي يحدث في بيئة تقليدية فقيرة هو مايجعله أمرا مثيرا ومشجعا.
ومع ذلك، ونتيجة لحداثة التجربة، فإننا لا يسعنا إلا القول بأن مسيرة الديموقراطية والمشاركة السياسية في اليمن تمضي في الواقع بين مد وجزر، فهي تتقدم إلى الأمام في جانب، وتتعثر في جانب آخر، كما هو الحال في كثير من التجارب الاقليمية والدولية. ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى ما جاء في تقرير التنمية البشرية في اليمن لعام 2001. يقول التقرير:
تطور المشاركة السياسية في اليمن يسير بالمراحل الطبيعية التي نجدها في كثير من الديموقراطيات الناشئة والتي تعكس تقلبات مجموعة من العوامل المرتبطة بالنظام السياسي وبالتنظيمات السياسية وبالمواطنين، إلا أن هذا التطور لم يصل بعد إلى مستوى التحول النوعي في طبيعة الثقافة السياسية وأشكال الوعي السياسي. ولازال العديد من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى التي ينظر اليها كآليات لتغيير الثقافة السياسية محكومة، وفي أحايين كثيرة، بأشكال ووعي سياسي تقليدي. ص66
وخلاصة القول في هذا المجال، أن اليمن، كغيرها من الدول الأخرى، لا يمكن الوصول فيها إلى التنمية الإنسانية المنشودة والتي ترتكز على المعرفة بغير مشاركة المواطنين الفاعلة في القرارات التي تخص جميع مناحي حياتهم. ولكي تكون المشاركة فعالة، يجب أن يتوفر لليمنيين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والحزبية، فرصة وافية ومتساوية لإدراج مطالبهم على جدول أعمال الحكومة، ولطرح همومهم تعبيرا عن الخيارات التي يفضلّونها كحصيلة نهائية لعملية صنع القرار الحكومي. وبغير ذلك، تظل الممارسة السياسية الموسمية شعارا يفتقر إلى أي مضمون حقيقي في واقع الحال.
ومثل هذه المشاركة السياسية الفاعلة المنشودة تستلزم بدورها قدر كاف من توزيع القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على نطاق واسع في المجتمع. فعن طريق التوزيع العادل لمصادر الثروة والتأثير، يمكن لليمنيين التأثير على الأداء الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات المحلية الذين ينتمون اليه وللأداء السياسي للحكومة بصورة عامة. وعبر هذا الأداء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتوازن والذي يستمد شرعيته من المشاركة الشعبية الفاعلة، يمكن القول عندها بأن اليمن قد بدأت بالفعل باتخاذ الخطوة الأولى في طريق العبور إلى مجتمع المعرفة واللحاق بركب الحضارة العالمية المعاصرة.
المجتمع المدني
يذكر تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 أنه يتوافر لدى معظم الدول العربية أطر قانونية خاصة بالجمعيات والهيئات السياسية وغير السياسية، وبالمنظمات غير الحكومية، وهيئات القطاع الخاص، والنقابات العمالية. وعلى وجه الخصوص، قوانين تأسيس الجمعيات الأهلية، وقوانين الصحافة، وقوانين الأحزاب السياسية في كل دولة. ومع ذلك، يشكو التقرير من أن الدولة في الوطن العربي تحاول أن تلتهم بصورة متزايدة المساحات التي يجب يحتلها المجتمع المدني. فالدولة في المجتمعات العربية تسعى للسيطرة على جميع ميادين النشاط الاجتماعي والتحكم بها وتوجيهها التوجيه الذي يخدم مصالحها في المقام الأول. وتأتي المؤسسات البحثية الخاصة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني في مقدمة الفعاليات الشعبية التي تسعى الأنظمة العربية إلى الهيمنة عليها، أو على الأقل تطويعها لمصالح هذا النظام السياسي أو ذاك.
وبالنسبة لليمن، يمكن القول بأن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني تمثل أحد الأركان الأساسية في منظومة الحكم في اليمن حيث أكد الدستور والقوانين النافذة على حق المواطنين في جميع أنحاء اليمن في المشاركة الشعبية بصورة مباشرة أو غير مباشرة من خلال أطر مؤسسية حديثة تتمثل في الأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات الشعبية والأهلية وغير الحكومية.
ونظرا للطبيعة المتشعبة لمنظمات المجتمع المدني فقد تعددت القوانين المنظمة لها، والتي من أهمها "قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية"، "قانون الأحزاب والتنظيمات والاتحادات التعاونية"، "قانون الصحافة والمطبوعات". وفي كل هذه القوانين، سعى المشرع اليمني إلى تحقيق نوعا من التوازن بين حرية الحركة التي يجب أن تمنح لمنظمات المجتمع المدني حتى تؤدي عملها على الوجه الذي أراده لها من قام بتأسيسها أو سعى للحصول على خدماتها من ناحية وبين الحاجة إلى نوع معين من الإشراف والرقابة على أنشطتها من قبل الأجهزة الحكومية من ناحية أخرى.
وعليه، فقد تضمنت مواد هذه القوانين الخاصة بمنظمات المجتمع المدني أشكالا متعددة للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني من حيث الدعم والتمويل والتكامل في الأداء والوظيفة لكل منهما. فضمن هذا الإطار القانوني، يتم تقديم الدعم المالي والعيني لمنظمات المجتمع المدني من قبل الحكومة، وفي مقدمتها الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية، وذلك وفقا للضوابط المحددة في القانون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق