الأحد، 30 نوفمبر 2014

السلطة المحلية وعلاقتها بالبنى التقليدية


السلطة المحلية وعلاقتها بالبنى التقليدية(General Description)

من الواضح، أن نجاح اللامركزية لا يرتكز على بناء مؤسسات حكومية -تنسجم مع مفاهيم الحكم الرشيد التي يجري الحديث عنها حاليا- على المستوى المركزي فحسب بل يقوم أيضاً على تحسين كافة منظومة الحكم، بما فيها أجهزة السلطة المحلية، والذي في مقدمتها المشاركة الفعلية لجمهور المواطنين وإدماجهم في عمليات صنع القرار في المسائل التي تؤثر على حياتهم بغية تعزيز مبادئ الشفافية، والمساءلة، والاستجابة، وبهدف ضمان تنفيذ السياسات الحكومية فعلياً يساهم في تحقيق أهداف التنمية الشاملة. وعلى هذا الأساس، فإن اللامركزية في هذه الحالات لا تقتصر فقط على تحويل السلطة والموارد إلى الصعيد المحلي وجعل السلطات المحلية أكثر فعالية، بل إن قدرة تحقيق حكم محلي رشيد يجب أن يتم في المناطق التي تندر فيها نشاطات الحكومة بشكل عام، وعلى وجه الخصوص في الدول النامية حيث تكون الدولة ضعيفة في الغالب، ويكون تدخّلها خارج العاصمة محدوداً جداً.
إن إحدى أهم الأسباب الرئيسية الضرورية لإدماج البنى التقليدية في عملية التنمية المحلية بمفهومها الشامل تكمن في عملية تطوير أو زيادة كفاءة أجهزة الحكم أو السلطة المحلية، وخصوصا في تلك الدول التي باءت بالفشل فيها كلّ محاولات تحقيق اللامركزية على صعيد بناء أسس قوية على المستوى المحلي، وهو الوضع الذي نجده في كثير من الدول النامية التي وصلت فيها مسيرة التنمية الشاملة إلى طريق مسدود. أما السبب الآخر الذي يظهر مدى أهمية إدماج البنى التقليدية في عملية التنمية المحلية  فهو الحقيقة التي تشير إلى فشل العديد من السياسات الحكومية المتعلقة بالتنمية نتيجة إقصاء البنى التقليدية، أو نتيجة مقاومة هذه الأخيرة لبعض السياسات التي تتبناها الحكومة.
ومن هذا المنطلق، فإننا سنقوم في هذه المحاضرة، مستعينين بصورة أساسية بالدراسة القيمة التي قام بها العالمان السويسريان جورج لوتز وولف ليندر، بالتعرف على الأدوار التي يمكن تلعبها السلطات التقليدية مثل القبيلة على صعيد ترجمة الأهداف التي تستهدفها منظومة الحكم المحلي الرشيد.[1]
وفي هذا السياق، سيتم في القسم الأول من هذه المحاضرة، مناقشة مبادئ الحكم الرشيد، على غرار الشرعية، والإدماج الاجتماعي والمشاركة، واحترام حقوق الإنسان، وحكم القانون وتقسيم السلطة، والاستجابة، والمساءلة والشفافية، بالإضافة إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه البنى التقليدية في ترجمة تلك المبادئ في الواقع العملي لكثير من المجتمعات النامية.
أما في القسم الثاني من المحاضرة، فإننا سنقوم بالتعرف على الروابط المختلفة وكذلك الترتيبات المؤسسية النظامية التي يمكن أن تنشأ بين بنى الدولة الحديثة والبنى التقليدية حيث سنقوم باستعراض نماذج عن حالات اتخاذ البنى التقليدية صفة الحكومة المحلية وعن الحالات التي تكون مرتبطة فيها بالحكومة المركزية. وفي هذا السياق، سيتم استعراض بعض الأشكال التي يمكن أن يتم من خلالها عملية الإدماج النظامي للسلطات التقليدية في البنى الرسمية للدولة، كما هو الحال في تخصيص بعض الوظائف للسلطات التقليدية في بعض الهيئات الحكومية المحلية.
أما في القسم الأخير من المحاضرة، فإننا سنقوم بمناقشة دور البنى التقليدية في التنمية المحلية.

القسم الأول
البنى والهياكل التقليدية والحكم المحلي الرشيد


أهمية البنى التقليدية في التنمية المحلية
تحتل قضية التنمية المحلية مساحة محورية في الفكر التنموي على مستوى العالم منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وخصوصا بعد أن اعُتبر نجاح التنمية المحلية ضرورياً لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية التي اعتمدها غالبية قادة العالم خلال انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للألفية في عام 2000.
ونتيجة للدعم والاهتمام المتزايدين بالتنمية المحلية في السنوات الأخيرة، شرّعت العديد من الدول في تبني أسلوب اللامركزية والسلطة المحلية، حيث حظي هذا التوجه بدعم العديد من المنظمات الدولية العاملة في مجال التنمية على مستوى العالم، وخصوصا بعد حددت إستراتيجية البنك الدولي حول الحدّ من الفقر في العالم قضية التنمية المحلية كقضية أساسية في برامج الدعم التي تقدمها لكثير من الدول النامية في هذا الإطار.
ومن الواضح الآن لدى المهتمين بمسيرة التنمية في العالم، أن نجاح اللامركزية لا يرتكز على بناء مؤسسات حكومية تنسجم مع مفاهيم منظومة الحكم الرشيد التي يجري الحديث عنها في المرحلة الحالية فحسب بل يقوم أيضاً على ضرورة تحسين منظومة الحكم بمجمله على الصعيد المحلي، والذي في مقدمتها المشاركة الفعلية لجميع قطاعات الشعب وإدماجهم في عمليات صنع القرار على المستوى المحلي بغية تعزيز مبادئ الشفافية، والمساءلة، والاستجابة، وبهدف ضمان تنفيذ السياسات الحكومية التي تستهدف تحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة.
إن زيادة مساحة التركيز على صعيد الفكر التنموي من الاهتمام بصورة حصرية على المستوى القومي ليشمل الاهتمام بصورة موازية على قضية التنمية المحلية يسلط الضوء على الفعاليات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في المجتمعات المختلفة، وعلى وجه الخصوص في الدول النامية حيث تكون الدولة ضعيفة في الغالب، ويكون تدخّلها في المناطق الريفية محدوداً أيضاً في الوقت الذي يكون فيه تأثير البنى والقوى التقليدية كبيرا على حياة المواطنين في تلك المناطق. وعليه، فإن اللامركزية في هذه الحالات لا تقتصر فقط على تحويل السلطة والموارد إلى الصعيد المحلي وجعل السلطات المحلية أكثر فعالية، بل إن قدرة تحقيق حكم محلي رشيد يجب أن يتم في المناطق التي تندر فيها نشاطات الحكومة بشكل عام.
إن غياب مؤسسات وأجهزة الدولة في جميع المناطق الجغرافية في كثير من الدول النامية، كما هو الحال في غياب تواجد أجهزة الحكومة في بعض المديريات في اليمن، لا يعني على الإطلاق عدم وجود منظمات سياسية واجتماعية تقليدية تقوم بصورة أو بأخرى بالأدوار التي تقوم بها الدولة في المجتمعات المتقدمة، فلطالما أدت البنى والهياكل التقليدية النظامية وغير النظامية دوراً مهماً ولا تزال في دول عديدة على صعيد التنمية المحلية، كما ظهر في تجربة التعاونيات اليمنية في سبعينيات القرن الماضي.
ومن الواضح لدى علماء السياسة والاجتماع أن البنى التقليدية تضطلع بأهمية كبرى في تنظيم حياة الأفراد على الصعيد المحلي، بغض النظر عن توفر البنى الحديثة في الدولة. فالسلطات التقليدية، على سبيل المثال، تنظّم الحياة في القرى والمناطق النائية، وتشرف على عملية تنظيم حيازة الأراضي، وفض النزاعات بين المواطنين. وقد أظهرت التجارب الحديثة على صعيد التنمية المحلية أن اللامركزية الناجحة يجب أن تأخذ في الاعتبار البنى التقليدية حيث يرتبط تطبيق كل من اللامركزية وتعزيز الحكم المحلي بوجود ومدى فعالية السلطات التقليدية في التأثير على حياة المواطنين في القرى والمناطق النائية.
وقد ذكر الدكتور فؤاد الصلاحي أن التكوين الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع اليمني، على سبيل المثال، يظهر باستمرار تأثير البنى التقليدية، خاصة البنية القبلية بمحدداتها الاجتماعية والثقافية.  ويعتقد الدكتور الصلاحي أن ما ساعد على استمرار البنية القبلية هو وجود أوضاع عدة أهمها ضعف وركود نمو وتطور قوى الإنتاج في المجتمع حيث لم يطرأ أي تغيير جوهري على البناء التحتي طوال فترات تاريخية طويلة بل كان الضعف وبطء الحركة أهم سمة تميز درجة التطور الاقتصادي وتقسيم العمل في المجتمع اليمني. يضاف إلى  استمرار تأثير ظاهرة البنية القبلية في المجتمع اليمني استفادتها من ضعف الدولة وجهازها الإداري والسياسي نتيجة للصراعات السياسية والدينية والقبلية بين مختلف القوى الاجتماعية المكونة عبر تحالفها نخبة حاكمة متباينة في جذورها الاجتماعية وفي رؤيتها لأسلوب العمل السياسي في جهاز الدولة.[2]


إن قراءة التاريخ الاجتماعي السياسي للمجتمع اليمني توضح لنا حقيقة بالغة الأهمية هي أنه في كثير من مراحل التطور التاريخي التي برزت الدولة فيها كجهاز سياسي وإداري قوي، اتجهت التكوينات القبلية إلى الاضمحلال والاندماج في إطار تلك الدولة ومنظومتها الثقافية والأيديولوجية، وهذا يعني أن القبيلة لم تكن أبداً قوة فوق الدولة أي لا تتأثر بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بل على العكس من ذلك فالقبيلة في المجتمع اليمني هي وليدة نتاج الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، عندما تتطور قوى الإنتاج وعلاقاتها وتتكون بنى فوقية سياسية ودينية تكون القبيلة في سياق ذلك التحول وضمن آلياته، وعندما تنهار قوى الإنتاج ومؤسساتها الفوقية تكون القبيلة ضمن عوامل ذلك الانهيار وإحدى مسبباته، فالقبيلة تتصف بعقلية « انفصالية » تنزع دوماً إلى التوحد أو الانقسام وفقاً للنزعة البرجماتيه لرموز النظام القبلي ، فإذا كانت القبيلة تسعى إلى الاندماج في كيان سياسي أكبر منها فذلك يعني ضرورة إشراك واحتلال مراكز سياسية هامة لرموز القبيلة في داخل جهاز الدولة ، ويعني ذلك أيضاً استمرار حصول الرموز القبلية والمشيخية لعدة امتيازات مادية ومعنوية والعكس هو الصحيح، أي أنه في حالة ضعف الدولة تكون القبيلة هي الوريث لامتلاك السلطة والثروة وتكون القبيلة هي أداة سياسية في حالة الضعف التي أصابت الدولة عن طريق النزاعات السياسية والقبلية مع جهاز الدولة ومؤسساتها.[3]
هذا، ولا تأتي أهمية الدور الذي تلعبه القوى التقليدية من مسألة تأثيرها على حياة المواطنين في القرى والمناطق النائية فحسب، بل أيضا نتيجة لفشل الحكومة المركزية في بناء بنى فاعلة على الصعيد المحلي. ففي حال عجزت الدولة فعلياً عن تحسين حياة الأفراد بصورة ملموسة، يكون من الطبيعي أن يستمر هؤلاء حياتهم اليومية وفق بناهم وقواعدهم التقليدية مع تجاهل الحكومة المركزية.
وفي المغرب، مثلا، يشير البعض إلى أن مسار التنمية المحلية في ذلك البلد العربي مازال مفتوحا على مصراعيه فلا البنيات التقليدية استمرت أو تم الاستفادة منها ولا التجارب العصرية استطاعت أن تبلور تصورا كاملا ومتكاملا لإشكالية التنمية المحلية أم أن المسألة هي مسألة وقت فقط، بمعنى أن المغرب ابتداء من الاستقلال وانطلاقا من ظهير 1963 إلى غاية الميثاق الجماعي الجديد لم يستطع أن يضع تصورا علميا وحقيقيا يراعي خصوصيات الجماعات المحلية، لا على مستوى الامتداد الترابي وحجم السكان والإمكانيات الذاتية (المالية والبشرية) وظلت الجماعات المحلية تضطلع بأدوار لم تكن هي تلك التي وجدت من أجلها، فكان الضبط الأمني ومنطق تجزيء ما هو مجزأ ومحاولة التحكم في تدخلات السكان هو سيد الموقف. لكن هذا لا ينفي ما تحقق في مجال بعض الميادين كتجديد أطر الجماعات وإعطاء صلاحيات جديدة للمجالس المنتخبة للتدخل والاقتراح والتنفيذ وهذا ما حاول الميثاق الجماعي الإجابة عليه. وتبقى الجماعة المحلية كأصغر وحدة ترابية على المستوى المؤسساتي السبيل الوحيد بالإضافة إلى تسييد قيم الديمقراطية والمواطنة الحقة وإشراك السكان لتجاوز كل العراقيل التي تعترض طريق التنمية في هذه الجماعات.[4]
والملاحظة التي يجب الإشارة إليها في هذا المقام أن معظم الناس البسطاء، وخصوصا في الأرياف، ينظرون إلى مسائل التنمية والحكم بصورة عملية، فهم يتفاعلون مع الإجراءات والأساليب التي قد تحدث تأثيرا في حياتهم ومعيشتهم، وبالتالي فهم قد لا يهتمون ما قد تفرضه المبادئ والقواعد الديمقراطية العصرية المطبقة في المجتمعات المتقدمة. كذلك، لا يميز معظم الناس أيضاً بين البنى التقليدية والحديثة، إذ نجد أن الناس يتقبلون وبشكل تلقائي، في كثير من الحالات، مختلف أشكال السلطة لأسباب متعددة وبطريقة مرنَة، والتي قد تبدأ مع أوائل التنشئة التي مروا بها من خلال احترام الوالدين وكبار السن، مرورا باحترام القادة التقليديين وعلماء الدين وممثلي السلطة الرسمية.[5]
الجدير بالذكر أن الدور "التقليدي" الرئيسي للبنى التقليدية يرتكز على تنظيم الحياة في القرى، إلا أن الدول الحديثة تضطلع بوظائف إدارية وتوزيعية وإعادة توزيعية، لا تكون البنى التقليدية حاضرة مباشرة لتحقيقها. ومن الممكن، كما تدل تجارب بعض الدول النامية، إعطاء البنى التقليدية دوراً مختلفاً عن دورها التقليدي، في حال كانت تعمل على نحو جيد. وقد يكون ذلك أكثر فاعلية من محاولة إنشاء أو تحسين بنى حديثة للدولة. إلا أنه ينبغي الأخذ في الاعتبار أن الوظائف والموارد تعكس "علاقة سلطة" بين مختلف الأطراف الفاعلة في مجتمع ما أو بين مختلف مستويات الحكومة. هذا وإن تغيير هذه الوظائف وتوزيع الموارد من خلال إدخال المزيد من البنى التقليدية في الحكم المحلي سيغير دور البنى التقليدية.[6]
ويمكن أن تكون البنى التقليدية في غاية الأهمية في حالتين مختلفتين. ففي دول مثل السودان والصومال وتيمور الشرقية، لا تزال البنى التقليدية تشكل البنية الوحيدة الباقية والعاملة كمنظمة اجتماعية، بعد مرور سنوات عديدة من الحروب الأهلية. وفي هذه الحالات، يمكن أن تساعد السلطات التقليدية أي دولة في فترة ما بعد النزاعات على استعادة استقرارها، لأنها البنية الوحيدة الفاعلة أو المتوفرة.
أما في سياق التنمية، فيمكن الافتراض أن السلطات المجتمعية المختلفة الحديثة والتقليدية أو الرسمية وغير الرسمية يمكن أن تتواجد في ظل منظومة تنموية تفاعلية تكاملية، وليست تصارعية، حيث يمكن الأخذ في الاعتبار مختلف أشكال التفاعل أو الاندماج القائم بين السلطات التقليدية ومؤسسات الدولة الرسمية لتحقيق نفس الأهداف التنموية.
وبطبيعة الحال، وهناك تغير ملحوظ بين الدول وداخلها، في ما يتعلق بدرجة تعلّق الشعوب بالبنى التقليدية، والقيم والمعايير، أو بالدولة الحديثة في حياتهم اليومية، بالإضافة إلى درجة تأثرهم بشكل من أشكال السلطة. ففي بعض المناطق، تعتمد درجة التعلّق بالبنى التقليدية بشكل ملحوظ على مستوى التمدّن. ففي المناطق الحضرية، يتأثر الناس بالبنى الحديثة، وبالقيَم والمعايير العصرية في الحكم والاجتماع، أكثر منها في المناطق الريفية، حيث تكون درجة التعلّق بالبنى التقليدية أكثر قوّةً وتماسكا. إلا أنه حتى في المناطق الحضرية الكبرى، قد يكون العديد من الأفراد لا يزالون متعلّقين جداً بجذورهم التقليدية التي تسود فيها قيم القبلية والعشيرة.[7]




السلطات التقليدية والحكم المحلي الرشيد

تحديد مفهوم الحكم المحلي
على المستوى المفاهيمي، يمكن القول بأنه في حين يشير مفهوم الحكومة عادةً إلى المؤسسات والبنى الحكومية المتعارف عليها في العلوم السياسية، يحمل مصطلح الحكم في المقابل- كما هو واضح في الأدبيات الصادرة عن المنظمات الدولية المختلفة- مفهوماً أوسع وأشمل حتى أنه يتخطّى البنى السياسية المؤسساتية التي تربط دستوريا بالدولة، والذي يشمل جميع البنى المجتمعية التي يقوم المواطنين بإنشائها والتي في مقدمتها منظمات المجتمع المدني.
ومن هذا المنطلق، نجد أنه لا يوجد تعريف محدّد للحكم صالح لكل زمان ومكان، بحيث يمكن تحديد هذا المفهوم بطرق مختلفة حسب التطبيقات المختلفة التي نجدها في دول العالم. أما في ما يتعلق بالحكم المحلي، الذي يشير إلى الحكم على المستوى المحلي، فإننا نجد أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يذكر ما يلي:

يتألف الحكم المحلي من مجموعة من المؤسسات، والآليات والعمليات التي تسمح لمواطنيها ومجموعاتهم تبيان مصالحهم واحتياجاتهم، وتسوية اختلافاتهم، وممارسة حقوقهم وواجباتهم على المستوى المحلي. ويتطلّب ذلك، شراكة بين كلّ من مؤسسات الحكم المحلي، ومنظمات المجمع المدني، والقطاع الخاص بغية تحقيق تنمية محلية وتسليم الخدمات على نحو يتّسم بالتشارك والشفافية والمساءلة والإنصاف. ويتطلب ذلك تمكين الحكومات المحلية من التعامل مع السلطة والموارد وبناء قدراتها حتى تغدو قادرة على العمل كمؤسسات تشاركية سريعة الاستجابة ومسئولة عن هموم واحتياجات المواطنين كافة. وفي الوقت عينه، تكون مهتمّة بتعزيز الديمقراطية الشعبية وبتمكين المواطنين والمجتمعات ومنظماتها على غرار المنظمات المجتمعية والمنظمات غير الحكومية، من المشاركة في الحكم المحلي وعملية التنمية المحلية كشركاء متساوين.[8]                                     

أما المفهوم الشائع والموحّد بين كافة المفاهيم المُقدّمة لكلمة "الحكم" فينصرف إلى كيفية ممارسة السلطة، وعن مدى أهمية القرارات المُتّخذة في مجتمع ما. هذا، ولا يشير الحكم إلى المؤسسات فحسب، بل أيضاً إلى أداء هذه المؤسسات، وذلك لأننا في مجال الإدارة العامة لا نهتم فقط بالهياكل والأساليب والإجراءات بل أيضا بالفعالية والكفاءة التي يفترض أنها محددات أساسية يجب أن تقوم الأجهزة الحكومية بأخذها على محمل الجد. والجدير بالذكر، أنّ هذه المفاهيم للحكم لا تسلّط الضوء على أهمية الأطراف الحكومية الفاعلة فحسب، بل أيضاً على مختلف أطراف المجتمع المدني الفاعلة على صعيد الحكم المحلي. وعليه، يمكن تحديد مفهوم الحكم الرشيد على النحو الآتي:

إنّ الحكم الرشيد هو، من بين أمور أخرى، قائم على المشاركة والشفافية والمساءلة، كما أنه فاعل ومنصف، ويعزز حكم القانون. فالحكم الرشيد يشدد على ضرورة أن ترتكز الأولويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على إجماع شامل في المجتمع، وعلى أن تؤخذ في الاعتبار آراء ومطالب الفئات الأكثر فقراً وتهميشاً في عملية صنع القرارات المتعلقة بتخصيص الموارد التنموية. وللحكم ثلاث مجالات، ألا وهي: الاقتصادية والسياسية والإدارية. فالحكم الاقتصادي يضمّ عمليات صنع القرارات التي تؤثر في النشاطات الاقتصادية لدولة معينة وفي علاقاتها مع الاقتصاديات الأخرى. ومن الجليّ أن لهذا الحكم ترتيبات مهمة على كل من العدالة والفقر ونوعية الحياة. أما الحكم السياسي فهو عملية صنع القرارات بهدف رسم السياسات. وفي ما يتعلق بالحكم الإداري، فهو نظام تنفيذ السياسات. وإذا شملنا هذه التحديدات الثلاثة، نخلص في القول أن الحكم الرشيد يحدّد العمليات والهيكليات التي توجّه العلاقات السياسية والاقتصادية-الاجتماعية.[9]
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا المفهوم للحكم لا يحدّد نوع القيادة الضرورية للحكم الرشيد على الصعيد المحلي. وبالتالي، ليس من الضروري أن تكون محدودة ومحصورة بالحكام المنتخَبين وفق النظام الديمقراطي المعمول به في الدول المتقدمة، بل تدلّ أيضاً على أشكال أخرى للقيادة على غرار السلطات التقليدية. إلا أنه بغضّ النظر عن نوع القيادة، يجب أن تتوفر شروط عديدة حتى يكون الحكم المحلي "رشيدا" أو "صالحاً".
·        الشرعية: يجب أن تحترم الشعوب المحكومة قرارات السلطات وأن تعتبرها شرعية.
·        يجب أن يتوفر الإدماج الاجتماعي، والتمكين، وتساوي الأصوات، والمشاركة (بغض النظر عن النوع الاجتماعي (الجندر)، والشباب، والطبقة الاجتماعية، والعرقية والدين).
·        ينبغي احترام حقوق الإنسان الأساسية، بالإضافة إلى حكم القانون وتقسيم السلطة.
·        يتعيّن على الحكم المحلي أن يكون سريع الاستجابة ويتمت بالشفافية، وعلى الحكام أن يعتمدوا مبدأ المساءلة، مما يعني معاقبة سلوك غير مناسب.[10]


مبادئ الحكم الرشيد والسلطات التقليدية
يرى العالمان جورج لوتز وولف ليندر أنه في ظلّ النقاش الدائر حول مبادئ الحكم الرشيد من جهة والسلطات التقليدية من الجهة الأخرى، يجب الأخذ في الاعتبار أمرين أساسيين: الأول يتعلق بالمقارنة النظرية القائمة بين السلطة التقليدية والحكومة أو السلطة المحلية الديمقراطية المُثلى، لكن بما أن المثالية نادراً ما تتحقق عملياً، يرتكز الاعتبار الثاني على ضرورة مقارنة الحكم التقليدي بالحكم المحلي على النحو الذي هو عليه في الواقع.[11]

(أ) الشرعية
تعتمد الشرعية على درجة تقبّل واحترام المواطنين للقرارات التي تتخذها السلطات السياسية، فالمواطنون لا يتقبلون ويحترمون السلطة إلا عندما يلمسون شرعية السلطات السياسية وقراراتها من خلال شعورهم بأنها تصب في الاتجاه الذي يرغبون فيه. لذلك، تشكل الشرعية آلية مهمّة تربط بين الشعب والسلطة في أي منظومة للحكم في العالم. غير رضا بعض المواطنين قد لا يتحقق في كل الأوقات، ومن ثم تظهر الحاجة إلى اللجوء إلى القوة الشرعية لضمان احترام القوانين، لكن يجب أن تعتمد عملية اللجوء إلى القوة على حكم القانون حتى يعتبر شرعياً.
ففي الدول الديمقراطية المعاصرة، تنبع شرعية القادة الرسميين من كلّ من العمليات الانتخابية التي أفرزت تلك القيادة، وكذلك حكم القانون وشرعية المؤسسات السياسية المستقرة عبر فترة من الزمن، وكذلك الأنظمة الدستورية والقانونية التي تنظّم عمليات صنع القرار الخاص بالسياسة العامة التي يناط بها تنظيم كافة شئون المجتمع. وعلى هذا الأساس، فالمواطنون ينتخبون قادتهم السياسيين بشكل منتظم، كما أنهم قد يقوموا بتغييرهم في حالة أخفقوا في إرضاء رغبات وطموحات المواطنين، أو في حالة لم يحققوا ما وعدوا به خلال حملاتهم الانتخابية. وليس خافيا، أن الدساتير والقوانين هي التي تشكل البيئة المواتية لصنع القرارات المتعلقة بالسياسة العامة في الدول الديموقراطية، كما يتم تبني الديمقراطية بسبب مشاركة المواطنين المتساوية في ظل القانون والشرعية الدستورية.


وعليه، فالشرعية تركز إلى حدّ بعيد على ما يعتبره المواطنون شرعياً وعلى ما يقبلونه كجزء من منظومة الحكم السائدة في المجتمع. وعلى الرغم من أن المواطنين ليسوا مُجبرين على قبول وتبني القرارات التي تتخذها السلطة الرسمية، إلا أنه يتعيّن عليهم اعتبار السلطة بمثابة صانع قرار شرعي. وهذا تمييز في غاية الأهمية، إذ يدلّ على عدم الاكتراث بما يفكر به المواطنون إزاء كلّ مسألة أو قضية، وإذا كانوا يعتبرون المؤسسات و/أو السلطات السياسية شرعية أم لا. وفي حال لم يعتبر المواطن عملية صنع القرار عملية شرعية، فلن يتبنى بدوره أي قرار لا يتناسب مع أولوياته الخاصة حيث يمكن أن يتصرف وفقا لمصلحه الخاصة، وبصرف النظر عما قد تتخذها السلطة الرسمية من قرارات. وفي حال تمرّد عدد كبير من المواطنين على السلطة، فإن ذلك يمكن أن يترتب عليه قيام انتفاضة شعبية، أو ثورة، أو حتى على الصعيد الفردي، سلوك الخيانة التي يمكن أن يظهر في كثير من حالات التأزم أو الاحتقان السياسي. لذلك، من الأهمية بمكان أن يعتبر جمهور الشعب عملية صنع القرار عملية شرعية بصورة يمكن أن يعتبرها مرضية وملبية للمصالح العامة، ولو في حدودها الدنيا، ذلك أنه في حالة أن احترم وتبنى المواطنون أسلوب صنع القرارات المتعلقة بالسياسة العامة بصورة عامة، فإنهم سيقوموا بالتالي باحترام القرارات التي لا يوافقون عليها أيضاً والتي تمنح للنظام السياسي الاستمرار وتمنح في الوقت نفسه المواطنين الاستقرار.[12]
لذلك، يشكل عنصر الإيمان أو الثقة بشرعية السلطة القائمة عنصراً مهماً جداً في منظومة الحكم في أي بلد، فبما أن معظم الناس الغارقين في عالمهم الخاص أو في نطاق مشكالهم الشخصية لن يفهموا أو يستوعبوا مصادر الشرعية المختلفة، إلا أنهم سيعتقدون أن الشرعية يمكن اكتسابها أو الاحتفاظ بها. وبما أنه تتوفر مصادر متعددة للإيمان بشرعية السلطة، هناك أيضاً مصادر عديدة لاكتساب الشرعية والاحتفاظ بها.


وفي المجتمعات التقليدية، تكون القيادة عادةً موروثة، ويكون مصدر شرعية السلطات التقليدية تاريخياً حيث لا يُنظر إلى هذه السلطات عادةً كقادة سياسيين فحسب، بل أيضاً كقادة روحانيين لمجتمع معين، أو حتى كـ"آباء" و"أمهات" لهذا المجتمع. هذا، ويمكن أن يدعي القادة/الرؤساء التقليديون بالشرعية المميزة أمام شعوبهم، لأن هذه المؤسسات تتضمّن وتشمل التاريخ، والثقافة، والقوانين والقيَم الدينية والمدنية لأفراد المجتمع.[13]
ويمكن أن تتواجد وتتعايش أنواع مختلفة من السلطات الرسمية والشعبية في الوقت عينه، كما يمكن الاعتراف بها واحترامها في الوقت عينه، وإن يكن لأسباب مختلفة. وفي حين قد يحترم الشعب سلطة الحكومة المحلية والبعض من قراراتها الحكومية (على سبيل المثال، التنمية المحلية، البنية التحتية، إلخ...)، فإن نفس الموطنين يرجعون إلى السلطات التقليدية لأمور أخرى تؤثر بحياتهم (مثلاً، حلّ النزاعات القائمة على الأراضي، ومعالجة المسائل الدينية والاجتماعية). والجدير بالذكر أنه ليس من الضروري أن يؤدي ذلك إلى نزاع بين شكلَي السلطة، طالما تحترم إحداهما شرعية الأخرى. وبما أن شرعية القادة الرسميين والتقليديين مرتبطة بأدائهم، فإن دعمهم من قبل المواطنين يعتمد على مستوى أدائهم.
وغالباً ما تمتاز السلطات التقليدية بالقدرة على تعبئة القدرات والموارد المحلية بصورة أفضل من القدرة التي تمتاز بها أجهزة الدولة. فحتى عندما يغيب اعتراف الدولة الرسمي بهذه السلطات، على الدولة أن تستشير وتقنع السلطات التقليدية بغية كسب رضا الشعب و/أو تعبئته، مما يشكل أحد أبرز الأسباب التي دفعت القادة التقليديين في العديد من الدول إلى الاعتراف بالقادة السياسيين والتعامل معهم.
وقد اعترفت العديد من الحكومات في المرحلة الراهنة بأهمية القادة التقليديين في دعم سياسات الدولة وتعبئة الجهود الشعبية عندما يكون التغيير إلى الأفضل هو الهدف الذي تسعى الحكومة إلى تحقيقه، وذلك اعترافا بالحقيقة التي تشير إلى أنه، يصعب جداً، أو حتى أنه يستحيل في معظم الحالات تنفيذ السياسات التي تستهدف التغيير من دون الحصول على دعم القادة التقليديين، خصوصاً في الدول والمناطق التي تطغى فيها العادات التقليدية في المجتمع، كما هو الحال في الدول العربية والأفريقية.
هذا، وغالباً ما تستدعي الحاجة إلى تعبئة قدرات القادة التقليديين بغية تنفيذ السياسات العامة على صعيد البنية الاجتماعية، الاقتصادية أو السياسية للمجتمع، مثلاً في المبادرات الوطنية لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، ولتنفيذ برامج التلقيح، وتنفيذ إصلاحات الأراضي وصيانة الطرق ...إلخ.                  
إن اعتراف الدولة الرسمي بالقادة التقليديين يمكن أن يساهم في تحويل شرعيتهم بصورة سلسلة ومتدرجة بدون الحاجة إلى التصادم معهم. غير أن الأمر لا يخلو من مخاطر، على اعتبار أن شرعية القادة التقليدين والتي تتم في العادة بشكل مستقل عن هياكل الدولة الرسمية، قد تفقد أولئك القادة الاستقلالية التي كانوا يتمتعون بها، كما أنه قد يُعزى إليهم فشل الدولة أو قد يحملوا فشل القادة السياسيين في إحداث التغيير المنشود. يضاف إلى ذلك، أن هناك خطراً في أن يتورط هؤلاء القادة التقليديون في سياسات الدولة الرسمية، لأن الأحزاب وقادتها قد يستعينون بالقادة التقليديين كمصدر تعبئة. وفي حال اعتُبر القادة التقليديون قادة غير مناصرين للحزب (أو الأحزاب) الحكام، يمكن أن يؤدوا دوراً قيّماً ومهماً جداً في المجتمعات المحلية، مثلاً في إطار حلّ النزاعات وتحقيق العدالة. لكن في حال ظلّ رؤساء القبائل مستقلين عن وصاية الحكومة، يسهل حينها على الحكومة التلاعب بهم والتأثير في قراراتهم.
(ب) الإدماج الاجتماعي
إن المعيار المهم الذي يجب أن يضطلع به الحكم الرشيد هو أنه ينبغي أن يكون شاملاً، كما يجب أن تكون القرارات السياسية ممثلة للأغلبية الساحقة من المواطنين. وتعني الشمولية في هذا الإطار أن سُبل الوصول إلى الخدمات يجب أن تتوفر للجميع وأن العوائق الاجتماعية والتربوية التي تقف حاجزاً أمام بعض فئات المجتمع يجب أن تؤخذ في الاعتبار. في المقابل، نجد أن تركيبة السلطة التقليدية قد لا تشمل في الغالب العنصر الاجتماعي أو النوع الاجتماعي (الجندر)، إذ تُنقل ألقاب ووظائف القادة التقليديين عادةً بالوراثة إلى خلفائهم الذكور، وذلك في كل المجتمعات التقليدية تقريباً. نتيجة لذلك، يتمّ إقصاء واستثناء النساء عادةً من الحكم التقليدي بصورة مستمرة ومتوارثة. 
أما في الدول الديمقراطية المعاصرة، فتتم عملية الإدماج الاجتماعي نظرياً عبر الاقتراع العام الخاص بالانتخابات، حيث يحظى الذكور والإناث البالغون بحق التصويت والترشّح إلى المناصب الرسمية. الأمر الذي يجعل المواطنين يولون اهتماما ملحوظا بمسائل الحكم والسياسة وبما يجري في مجتمعاتهم كونهم من يمنحون الثقة للسياسيين المنتخبين أو يحجبونها عنهم.
وفي الواقع، نجد أن الرابط المباشر القائم بين الشعب والحكومة على الصعيد المحلي قد يغيب في معظم الأحيان، ولاسيما حيث تغيب الانتخابات المحلية وتعيّن الحكومة المركزية أو التابعة لولاية معينة ممثليها. وفي هذه الحالات، يكون الممثلون المحليون مسئولون مباشرةً أمام أعلى مستويات الحكومة، وبشكل غير مباشر أمام السكان في المحليات فقط. لذلك، فإن التمثيل والإدماج في عملية صنع القرارات على الصعيد المحلي لا يمكن ضمانته أو تحقيقه على المستوى المحلي من خلال البنى الحكومية وحدها، وبمنائ عن ما هو قائم بالفعل على صعيد السلطات التقليدية.
وعندما يتم مناقشة مسألة الإدماج الاجتماعي، على المرء أن يقارن القيادة التقليدية بالوقائع الاجتماعية، ففي العديد من الدول والمناطق يستحوذ الذكور على القيادة في جميع المجالات العامة، في حين يتمّ إقصاء النساء رسمياً من القيادة التقليدية. وهناك أيضاً انحياز اجتماعي قوي في المشاركة السياسية وداخل النُخب السياسية لصالح القلة من الأثرياء والمثقفين. ففي المناطق التي يشكل فيها العرق انشقاقاً بارزاً وملحوظاً في المجتمع وحيث يكون القادة مدعومين عرقيا، لا يهم عندها ما إذا تمّ انتخاب القادة أو ورثوا مراكزهم على اعتبار أنها يتمتعون بدرجة معينة من الشرعية.
ونتيجة لفشل البنى الحكومية في تحقيق الإدماج الاجتماعي، يتمّ اللجوء إلى العديد من النماذج التشاركية بغية تعزيز التمثيل في عملية التخطيط وصنع القرار. ففي المشاريع الإنمائية، على سبيل المثال، يتم الاعتماد على ما يسمى بالتخطيط التشاركي الذي يتم من خلاله إشراك أكبر عدد ممكن من الفئات في المجتمع في عملية صنع القرار الخاص بالسياسات التي تنوي الحكومية اتخاذها على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وترتكز الخطوة الأولى على تحديد الأطراف المعنية كافةً، التي تمثل إما الحكومة المحلية أو القادة التقليديين، أو أي فئة أخرى في المجتمع كالجمعيات التجارية والمنظمات النسائية، إلخ... في هذا الإطار، تكون السلطات التقليدية فقط واحدة من بين العديد من الأطراف المعنية. 


(ج) احترام حقوق الإنسان، حكم القانون، وتقسيم السلطة
تتمتع معظم الدول المعاصرة بأنظمة قانونية حديثة على الصعيد الوطني؛ وخصوصا تلك الدول التي صادقت على المعاهدات الدولية، على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والميثاق العالمي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي المقابل، نجد أن المجتمعات التقليدية تمتلك قوانين وتقاليد قد لا تتطابق بالضرورة مع المصادر الحديثة للقانون الوطني والدولي. وعلى هذا الأساس، فإن تقسيم السلطة والذي يشتمل على نظام قضائي مستقل، وهو عنصر جوهري في الديمقراطية الحديثة، قد لا يتوافر عادةً في المجتمعات التقليدية حيث يضطلع القائد التقليدي بمسؤولية فضّ النزاعات وصنع القرارات أو سنّ القوانين. كما أن هذه القوانين التي تحكم المجتمعات التقليدية قد لا تكون منسّقة ومنظّمة على نحو نموذجيّ أو بشكل حديث وعصري، ولكنها في النهاية تحدد حياة المجتمع وكيفية تنظيمه.
ويثور الجدل في حالة وجود ممارسات وقوانين ومعايير تقليدية تتعارض بشكل جلي مع العناصر الجوهرية الواردة في إعلان حقوق الإنسان حيث يتمحور السؤال المتعلق حول ما إذا كان حق المجتمعات التقليدية في تقرير مصيرها يجب أن يتقدم على قضية احترام حقوق الإنسان أو العكس؟
الجدير بالذكر أنه لا يوجد معيار دولي حول القانون الذي يحظى بالأسبقية على غيره. وكون انتهاك البعض من حقوق الإنسان مسألة شائكة بحدّ ذاتها، فهي تشكل جدلاً ونقاشاً ذات طابع سياسي وفلسفي. ومن غير الممكن شرعياً تحديد من جهة العناصر التي تعتبر "بالفعل" دولية في القانون الدولي وحقوق الإنسان، ومن جهة أخرى العناصر التي تضطلع بأهمية أقل فتأتي من بعد حق المجتمعات التقليدية في تقرير مصيرها. على سبيل المثال، تسبب بعض المعايير التقليدية الأذية لصحة النساء، على غرار استئصال أعضائها التناسلية. ففي بعض المجتمعات التقليدية في إفريقيا التي تمّ تسليط الضوء عليها مؤخراً، تشكل حماية النساء من القيم والمعايير التقليدية أهمية أكبر لدى الشعوب ذات الخلفية الغربية. إلا أنه، في الحالات الأخرى التي لا يتطابق فيها النظام التقليدي الخاص بحلّ النزاعات مع المعايير الدولية الخاصة بالقانون الجزائي، قد لا يكون واضحاً جداً مصدر القانون الذي ينبغي الخضوع له.[14]
وتجدر الإشارة إلى أن التناقضات لا تبرز فقط بين القانون الدولي والقانون التقليدي بالطبع. فالقانون الوطني قد يتعارض أيضاً مع الممارسات والتطبيقات التقليدية، مما يثير عدداً لا يستهان به من المسائل والأسئلة العملية جداً، على غرار ما يلي:
-   هل قد اعترفت الدولة الحديثة بأن القيادة التقليدية هي بمثابة مصدر قانون شرعي للمجتمعات التقليدية؟ ففي أميركا اللاتينية والدول الإفريقية، يحترم الدستور ممارسة وتطبيق القانون العرفي. وهذا هو الشرط الأول الضروري الذي ينبغي توفره.
-   في أية حالات يتم تطبيق القانون التقليدي وفي أية حالات أخرى لا يتم تطبيقه؟ قد يكون شائعاً تبني القوانين التقليدية الخاصة بامتلاك الأراضي وتوزيعها، إلا أنه ينبغي التشديد على ضرورة احترام حقوق الإنسان.
-   على مَن يُطبّق القانون التقليدي؟ ففي حال كان المجتمع التقليدي منعزلاً جغرافياً، يسهل عندها تحديد الأفراد الموجودين في إطار اختصاص القانون التقليدي. إلا أنه، نتيجة لظاهرة الهجرة، لم تعد مجتمعات تقليدية عديدة منعزلة. عندها، هل يمكن تطبيق القانون التقليدي على كلّ الأفراد المقيمين في منطقة معينة، أو يُطبّق فقط على المنتَمين إلى المجتمع التقليدي؟ وما هو القانون الذي ينبغي أن يخضع له أعضاء المجتمع التقليدي المهاجرين إلى الخارج؟
-   هل يمكن للأفراد اختيار القانون الذي سيخضعون له، أم أن هناك قوانين واضحة تحدد القانون الواجب تطبيقه في حالة أو وضع معين؟ والجدير بالذكر أن العديد من المجتمعات التقليدية قد اغتربت ثقافياً عن تقاليدها واندمجت جزئياً في البنى الحديثة. في هذه الحالات، يتم التساؤل حول هوية الأفراد الذين ينطبق عليهم القانون التقليدي، أو إذا كان يمكن لكل فرد في مجتمع ما اختيار النظام الذي سيخضع له.[15]

 (د) الاستجابة والمساءلة والشفافية
تشكل كلّ من الاستجابة والمساءلة والشفافية عناصر جوهرية في الحكم الصالح. فالاستجابة تعني أن كافة أشكال السلطة يجب أن تعمل في إطار مصالح المواطنين مع الأخذ في الاعتبار أولوياتهم واحتياجاتهم. وبطبيعة الحال، يكون للأفراد أفضليات مختلفة في ما يتعلق بمختلف السياسات الحكومية، وفي حال اتخذت السلطات هذه القرارات بالنيابة عن الشعب، يجب أن يحترم هذا القرار إرادة هذا الشعب.
أما المساءلة فتعني أن أداء صانعي القرار غير الفاعل يمكن عقابه، مما يتطلب وجود آليات بغية معاقبة هذا الأداء المتواضع وغير الفاعل. أما الشرط الأساسي الواجب توفره لجعل السلطات مسئولة دائماً عن أعمالها وقراراتها فيرتكز على الشفافية بدرجة كبيرة. هذا ويجب أن يكون الشعب قادراً على الحصول على المعلومات، لأنه بغياب الشفافية تغيب المساءلة أيضاً.
وقد قام البعض بالتمييز بين مختلف أنواع المساءلة، فالفرق الأول الذي حدده هو الفرق القائم بين المساءلة السائدة في كنف الحكومة وخارجها، مما يترتب على ذلك قدرات عقابية مختلفة.[16]
-   المساءلة داخل المؤسسات الحكومية: وهي تضم المحاكم، والمجالس النيابية واللجان التشريعية، والمستويات العالية من الحكومة المختصة بالسلطات الحكومية المحلية التي تم تعيينها، بالإضافة إلى الوكالات المختصة بمكافحة الفساد، إلخ.
-   المساءلة خارج إطار الحكومة: إن قدرات المعاقبة الخارجية الرئيسية هي الانتخابات. وقد تؤدي وسائل الإعلام أيضاً دوراً بارزاً في معاقبة السلطات بطريقة غير مباشرة.
والجدير بالذكر أن المساءلة والاستجابة والشفافية غير محصورة بالحكومات المنتخبة. فالمفهوم الأساسي للديمقراطية المبنية على انتخاب ممثلي الشعب، هو أن السلطات تضمن الاستجابة والمساءلة في الانتخابات. إلا أنه خلال الانتخابات، يظهر القادة نوعاً مختلفاً من المساءلة والاستجابة أمام السلطات. وفي الانتخابات، يقدم القادة برامج وسياسات مختلفة، فيصوّت الشعب لهم بحسب تفضيلاتهم وأولوياتهم. وعليه، تسمح الانتخابات للشعب بعدم انتخاب القادة الذين يتسم أداؤهم بالضعف والفشل. وبالتالي، فإن انفتاح عملية صنع القرارات السياسية يؤمن الشفافية التي تسمح للشعب بالقيام باختيارهم في الانتخابات.
ومع أنه لا يتم انتخاب السلطات التقليدية، إلا أن هذا لا يعني أنها لا تستجيب بسرعة لاحتياجات مواطنيها، أو أنها غير مسئولة أو تفتقر إلى الشفافية. فمساءلة القادة التقليديين محصورٌ جداً لأنهم يرثون مناصبهم عادةً على مدى الحياة، وبالتالي تكون إمكانيات المعاقبة محدودة. إلا أن سلطة القادة التقليديين تعتمد على دعم الشعب.
وفي بعض الحالات، تعتمد سلطة القادة التقليديين أكثر على دعم الشعب مما هي عليه في الحكومات المحلية، وذلك نتيجةً لعدم وضوح وضعهم القانوني والسياسي، مما يجعلهم يتطلعون باستمرار إلى رضا الشعب عنهم للاستمرار في التمتع بالسلطة. كذلك، تتوفر آليات أخرى تجعل القادة التقليديين مسئولين عن أعمالهم وقراراتهم، وهذه حال القادة التقليديين في بعض الدول، الذين يعتمدون إلى حدّ بعيد على الحكومة المركزية التي تشرف على نشاطاتهم وتوافق أحياناً على تعيين قادة جُدد.
من الصعب عموماً تحديد ما إذا كان القادة التقليديون يستجيبون بسرعة إلى متطلبات المواطنين المحليين. ففي بعض المناطق، يستجيبون للاحتياجات المحلية نتيجة الدور الذي يؤدونه في المجتمع. إلا أنه بسبب محدودية وظائفهم في قضايا عديدة، فإن استجابتهم لاحتياجات الشعب ليست بأهمية الحكومات المحلية. وعليه، تكتسب مسألة استجابة ومساءلة السلطات التقليدية بأهمية أكبر إذا انغمست السلطات التقليدية أكثر في مسائل الحكم المحلي. وفي حال وحين تتغير وظائف السلطة التقليدية، يصبح من المهم تقديم آليات للمساءلة والتأكد من أن القادة التقليديين يستجيبون للاحتياجات المحلية. هذا وإن توفر الشفافية يعتمد على كيفية ممارسة القادة التقليديين للسلطة من جهة، وعلى عادات مجتمع معيّن من جهة أخرى. ومن الناحية النظرية، يتّسم القادة التقليديون بشفافية تقلّ عن تلك التي يتّسم بها القادة الرسميون، ذلك أن تبرير قراراتهم لا يتوافق مع مفهوم المأسسة.
وقد يسهل القول أن السلطات التقليدية لا تتسم بالمساءلة ولا تستجيب للاحتياجات المحلية بقدر ما هي عليه الحكومات المحلية. لذلك، تستدعي الحاجة إلى مقارنة القادة التقليديين بالحكومات المحلية بالوضع التي هي عليه في الحقيقة. ومن المعروف أن وجود الدولة في العديد من الدول النامية غائبٌ تقريباً، ولا سيما في المناطق الريفية. وفي هذه الحالات، لا تستجيب الحكومة للاحتياجات المحلية. أضف إلى ذلك أنه في العديد من الدول، لا تتم الانتخابات على حدة بل تتولى المستويات العليا في الحكومة مهمة تعيين السلطات المحلية. 
وفي هذه الحالات، يتعين على المستويات العليا في السلطة أن تؤمن المساءلة عبر رصد نشاطات السلطات المحلية. وعليه، يمكن إدخال آليات مماثلة عندما تُعزى رسمياً وظائف إضافية إلى السلطات التقليدية. وفي الواقع، تحظى العديد من الدول التي يُعترف فيها بدور القادة التقليديين، كما هو الحال في أفريقيا، بآليات خاصة بالرصد والإبلاغ بين السلطات التقليدية ومؤسسات الدولة.
وفي هذا السياق، يمكن القول بأن الانتخابات لا تشكل الآلية الوحيدة التي تُعنى بتأمين استجابة النّخب المحلية للاحتياجات المحلية فحسب. ففي المجتمعات الصغيرة، يكون القادة التقليديون مدركين باستمرار احتياجات السكان المحليين. كما أن أشكال أخرى من المشاركة الشعبية، كما هو الحال في عملية التخطيط التشاركي، والذي قد تلجأ إليه بشكل واسع المؤسسات التنموية، يمكن تهيئتها وتقديمها على الصعيد المحلي لتدعيم عمليتي المساءلة والاستجابة لكل من البنى التقليدية والحكومات المحلية.

 






القسم الثاني
العلاقات القائمة بين البنى التقليدية والحكم المحلي الرشيد


مقدمة:
في نهاية القرن العشرين، شهدت الديمقراطية تحركا ملحوظا على صعيد اندماجها مع الثقافات غير الغربية من بوليفيا في أمريكا اللاتينية إلى بتسوانا الأفريقية. لقد مزجت بوليفيا، على سبيل المثال، بين الديمقراطية الغربية والعادات والتقاليد المحلية حيث يسمح برنامج المشاركة الجماهيرية للمجتمعات الريفية بانتخاب ممثلين محليين كما كان يحدث منذ قرون مضت من خلال النظم القائمة على العشائر. ففي فترة ما قبل الاحتلال، كانت هذه المجتمعات تصوت في الانتخابات لانتخاب رئيس جديد (ليس دائماً رجلاً) بشكل سنوي للإشراف على الدورة الزراعية والطقوس الدينية وتنسيق شئون العشيرة. وكان يتم تداول هذه الوظيفة بين العشائر المختلفة والتي كانت مقسمة إلى أحياء، كل منها مخصص لزراعة محصول مختلف. وهذه التجمعات، تنتخب الآن حكومات محلية للإشراف على الخدمات من التعليم حتى مشروعات التنمية. كما تفعل القبائل الأخرى نفس الشئ من خلال نظم مشابهة تعتمد على الأسر أو الجماعات المحلية. وفى مجتمع مثل بوليفيا، يضم اكبر نسبة من السكان الأصليين للبلاد في أمريكا اللاتينية، كان لهذا النشاط الانتخابي تأثير عميق، وبخاصة عن طريق إدماج قطاع من المجتمع كان مستبعداً لمدة طويلة. فمنذ سنة 1993، تم انتخاب أكثر من 430 من البوليفيين سواء كانوا من السكان الأصليين أو من أصول مختلطة لشغل مناصب في عدة مجالس محلية. فمثلاً، نائب الرئيس البوليفي ينتمي إلى إحدى هذه العشائر، وهو من أصل هندي، ويعتبر أول هندي يحتل منصباً مرموقاً كهذا في أي من الأمريكيتين. ومما يزيد من تعميق العملية الديمقراطية في بوليفيا، أن الإصلاحات الدستورية التي بدأت سنة 1993، تضمنت إجراءات للتوفيق بين القوانين الوطنية الوضعية والقوانين التقليدية.
وفى بتسوانا، التي تعتبر أكثر الدول الأفريقية استقراراً، تم مزج الديمقراطية بالتقاليد القبلية البتسوانية حيث تمت مواءمة مؤسسات الدولة بما يتفق مع الهياكل القبلية. كما يعتبر البرلمان هناك امتداداً طبيعياً للمجلس القروي التقليدي، حيث يحق للبالغين الحديث عن القضايا العامة ويتم حسم الأمور بالتراضي. وكذلك مازال لمجلس الرؤساء تأثير أساسي على التشريع، وهذا يشبه كثيراً مجلس اللوردات البريطاني.


البنى التقليدية والحكم المحلي

إن التركيز المتزايد على السلطات التقليدية مرتبطٌ بالاهتمام المتزايد باللامركزية وبالدعم المُقدّم لها. فغالباً ما تتعايش المؤسسات الحديثة والنخبة الحضرية الحديثة، على الصعيد الوطني، مع البنى التقليدية على الصعيد المحلي. ففي معظم الحالات، قاومت البنى التقليدية فترة الاستعمار وظلّت تشكل جزءاً مهماً، أو حتى المرجع الأساسي لشرائح واسعة من السكان بعد فترة الاستقلال. أما الجهود الأخيرة التي بُذلت في سبيل اللامركزية قد نقلت التركيز إلى البنى السياسية والاجتماعية السائدة على الصعيد المحلي. وإذا لم تُؤخذ البنى التقليدية في الاعتبار، هناك احتمال كبير أن تفشل جهود التغيير السياسية والاجتماعية على المستوى المحلي. 
إن السلطة التقليدية هي مصدر شرعي للسلطة، لأن الشرعية هي كناية عما يؤمن به الناس ويقومون بالتصرف على أساسه في الحياة العملية. وفي حين تكون الشرعية في الدول الغربية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالديمقراطية، تشكل الديمقراطية في العديد من الدول الأخرى (ولاسيما على المستوى المحلي في المناطق الريفية) مفهوماً أجنبياً، كما أن شرعية القيادة التقليدية تكون أعظم وأهم من الشرعية التي تحظى بها البنى الحكومية الحديثة. هذا وإن الرؤساء والسلطات التقليدية يشكلون واقعاً اجتماعياً، كما ينبغي أن تعترف الجهود الإنمائية المبذولة على المستوى المحلي بهذه الهيكليات السائدة.
إن إحدى أفضل الطرق لوصف دول في العديد من الدول النامية هي تلك المتعلقة بالتعددية القانونية والدستورية. ففي حين تحظى معظم هذه الدول بدستور حديث وممثلين منتخبين، إلا أنها تضم في الوقت عينه بنى تقليدية تحدّد وتؤثر على الحياة الأفراد اليومية. ومع أن معظم الناس قد يعتبرون هذين المجالين منفصلَين تماماً، إلا أنه يمكن الافتراض أن الشعب الذي يتعامل مع سلطات مختلفة يأخذ في الاعتبار بنى مختلفة من دون النظر إليها على حدة. وعليه، يرتكز الأمر على النظرة الخارجية أكثر منها على نظرة السكان المحليين.
ومن أجل تقديم بعض أشكال الاندماج أو التعاون، يجب الأخذ في الاعتبار خطوات وإجراءات مختلفة:


أولاً: ضرورة تقبل السلطات التقليدية
على الحكومات أن تتقبل المجتمعات والسلطات التقليدية وتعتبرها بمثابة سلطة شرعية لبعض الشرائح من السكان، مما يشكل عاملاً في غاية الأهمية في العديد من الدول التي تحارب في سبيل صون حقوق الشعوب الأصلية. ففي أميركا اللاتينية، شكل الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية للشعوب الأصلية خطوة مهمة في سبيل حمايتها، كما شكلت الخطوة الأولى نحو تحقيق المزيد من إدماج البنى التقليدية في الحكم المحلي.

ثانيا: ضرورة وضع إطار قانوني
بعد النظر بايجابية إلى السلطات التقليدية، يجب أن تقوم الحكومة بوضع إطار قانوني ينظّم انفصال المجالين الحديث والتقليدي عن بعضهما البعض والتفاعل في ما بينهما. ففي بعض الدول في أميركا اللاتينية أو أفريقيا، تتوفّر أنظمة التعددية القانونية التي تعمل نسبياً بشكل جيد. لكن، من منظور قانوني، تبرز مشكلات جمّة. فغالباً ما يكون القانون العرفي غير منسَّق ومنظّم، كما تختلف أنظمة القانون العرفي بشكل ملحوظ في إطار دولة واحدة، إذ تحظى مجتمعات تقليدية مختلفة بأنظمة قانونية مختلفة. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن القانون العرفي قد لا يكون يتماشى مع المبادئ الأساسية للقانون الحديث. ومع أنه أُجمع على إمكانية تحقيق التعددية القانونية، إلا أنه صَعُب تنسيق وتنظيم القانون التقليدي وإيجاد ترتيبات قانونية تسمح بتعايش القانون التقليدي مع القانون الحديث بشكل متناغم. وعليه، يجب توضيح متى ينبغي تطبيق القانون التقليدي وعلى أي شريحة من الناس. والجدير بالذكر أنه لا يمكن تحقيق نظاماً فاعلاً خاصاً بالتعددية القانونية من دون توفر تشريع عملي. ففي العديد من الدول، هناك مقاربة غير ناضجة أو مكتملة حول اندماج القانون العرفي، بدلاً من بنية عملية وواضحة. وحالياً، يتعين على المحاكم تحديد القانون الواجب تطبيقه في حالة معينة وفي كلّ قضية على حدة.
على أن أهم ما في العلاقة القائمة بين الحكومات والسلطات التقليدية هي السلطة، على اعتبار أن انتقال الوظائف و/أو الموارد والاعتراف بقيادة جديدة يعني دائماً أنه يجب تحويل السلطة والنفوذ عما هما عليه. هذا، وقد تعتبر الحكومات المركزية السلطات التقليدية قوةً تعيق السلطة التي تمارسها، كما ولا تحظى بالحوافز الكافية لإدماج السلطة التقليدية.
والملاحظ من التجارب الناجحة على صعيد العلاقة بين البنى التقليدية والرسمية أن  الإصلاح المؤسساتي يتحقق فقط عند توفر شروط معينة. فالاحتمال الأول يرتكز على التزام قائد أو أغلبية الحكومة بالفكرة ذاتها، فيغير أو يقدّم بالتالي مؤسسات سياسية جديدة. أما الاحتمال الآخر المهم والشائع فيتعلق بدعم الحكومة للإصلاح المؤسساتي لأسباب استراتيجية. هذا وإن الأطراف الفاعلة في العالم قد يؤيدون فكرة تعزيز الاعتراف بالسلطات التقليدية، وبالتالي يدعمون الإصلاحات المؤسساتية ذات الصلة. وعلى الأرجح أن اللامركزية قد اعتُمدت في بعض الدول نتيجة الضغوطات الملحوظة التي مارسها المجتمع الدولي. أما على المستوى المحلي، فيتخلى الحكام أو الحكومات عن السلطة في حال ارتأوا أن ذلك قد يساهم في تعبئة بعض الشرائح من السكان المحليين لمصالحهم الخاصة. وبما أن القادة التقليديين قد تربطهم روابط وثيقة بالسكان المحليين، فإن التخلي عن السلطة قد يساعد على وضع سياسات متعددة، مما يساهم بطريقة غير مباشرة في تعبئة السكان المحليين لصالح الحكومة.
وتشكل موزمبيك مثالاً على وجود آلية سياسية تظهر كيف تمّ إدماج السلطات التقليدية في الإصلاح المؤسساتي. فعلى مدار فترة طويلة، لم يعترف حزب فريليمو الحاكم بالسلطات التقليدية، إلا أن حزب المعارضة المعروف بـ"ريناموهاد" قد دعم الإدماج النظامي للسلطات التقليدية. وحين ازداد حزب المعارضة قوةً، أدرك عندها حزب فريليمو الحاكم أن تقديم الدعم للقادة التقليدين قد يشكل عاملاً في غاية الأهمية. وعليه، أتاح ذلك فرصة اعتماد نوعاً من الإدماج النظامي للسلطات التقليدية على المستوى المحلي، مما خوّلها المشاركة في اجتماعات المجلس المحلي.  الجدير بالذكر أن إدماج البنى التقليدية في الحكم المحلي بشكل أو بآخر، يقدّم عدداً لا يستهان به من الفرص:

-   نهج غير غربي خاص بالحكم: إن الاعتراف بأشكال السلطة المختلفة عن البنى الديمقراطية ذات الطابع الغربي يتيح فرصة تكييف البنى السياسية مع الاحتياجات الاقتصادية-الاجتماعية للمجتمعات المحلية بشكل أفضل. فالتنمية يمكن بناؤها على البنى المتوفرة، كما يمكن أن تجد دول مختلفة نموذج التنمية والهندسة السياسية والاجتماعية الخاصة بها على الصعيد المحلي.
-   إدماج أفضل للسكان المحليين: إذا كانت السلطات التقليدية تمثل الشعب بطريقة أنسب من أي شكل آخر من السلطة والمنظمة، فإن الاعتراف بالسلطات التقليدية سيؤدي إلى مزيد من الإدماج.  
-   الموافقة على تنفيذ السياسات: في مناطق عديدة، يستحيل أو حتى يصعب جداً تنفيذ سياسات من دون الحصول على دعم السلطات التقليدية، لأن الشعب يتبع ويتبنى قرارات القادة التقليديين بدلاً من قرارات الحكومة. وحتى بغياب ترتيبات مؤسساتية رسمية، على الحكومات المحلية أن تعتمد بشكل نموذجي على دعم القادة التقليديين غير الرسمي.
-   امكانية الحصول على استجابة أفضل للاحتياجات المحلية: على غرار السلطة المعنية بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية، تكون السلطات التقليدية أكثر إدراكاً باحتياجات السكان المحليين.
-   السلطات التقليدية كداعم لعملية إحلال السلام (مثلاً في السودان أو أنغولا): إن إدماج الدول للسلطات التقليدية والاعتراف بها قد يضمن بدوره دعم هذه السلطات للدولة. إلا أن الخطورة تكمن في أن تعزيز السلطة التقليدية قد تؤدي إلى انقسامات عرقية أقوى وإلى تفاقم النزاعات.



مؤسسات السلطات التقليدية والحكم المحلي
هناك نماذج مختلفة من التعاون المؤسساتي بين السلطات الرسمية والتقليدية، على أن التأكد مما إذا كانت السلطات التقليدية مندمجة في الحكم المحلي وكيف تندمج فيه، يعتمد على عناصر مختلفة. فالأهمية التي تضطلع بها البنى التقليدية ليست متساوية في كلّ مناطق الدول النامية. فالحافز الذي يدفع الحكومات إلى تقاسم السلطة مع السلطات التقليدية على المستوى المحلي يكون طفيفاً إذا كانت ضعيفة أو في موقع الأقلية.
وحالياً لا يزال جهاز الدولة في العديد من الدول، لا يعترف بالسلطات التقليدية على المستوى المحلي، فهو إما يتجاهل وجود السلطات التقليدية أو هو في نزاع معها. إلا أن المعايير والقيم والمؤسسات التقليدية موجودة داخل الدولة، كما تعتمد أهميتها على وجود الدولة على الصعيد المحلي، خصوصاً في المناطق الريفية. 
وفي الدول التي شكلت فيها المجتمعات التقليدية الأقلية، كان من الشائع محاولة إلغاء هذه المجتمعات أو حتى إدماجها بالقوة في البنى الحديثة. ففي الولايات المتحدة وأوروبا ونيوزيلندا وأستراليا مثلاً، حاولت الدول الحديثة قمع الثقافات الأصلية أو إهمالها، إذ اعتبرتها متخلّفة وبدائية كما ارتأت أن اندماجها قد يشكل خطوة نحو التحديث. إلا أن هذا الاندماج غالباً ما أساء إلى هذه المجتمعات التقليدية حتى أنه فشل تحققه في معظم الأحيان. فالمنظمات الأصلية قد حاربت في سبيل صون حقوقها السياسية والثقافية، حتى أن معظم الدول قد قدمت مؤخراً للثقافات الأصلية حمايتها القانونية. وعلى الرغم من ذلك، لم يختف بعد التمييز وعدم المساواة كما لم تختف العديد من السلبيات المترتبة على ذلك.
وفي العديد من الدول في أميركا اللاتينية وأميركا الشمالية وأوروبا الشمالية، حيث تشكل البنى التقليدية الأقلية الساحقة، تحظى الشعوب الأصلية بالحماية وباحترام حقوقها الخاصة بحرية تقرير مصيرها. كما تسمح الترتيبات القانونية بالحكم الذاتي التقليدي والتعددية القانونية في بعض المناطق، التي تضم عادةً أنظمة المحاكم التقليدية وحلّ النزاعات قانونياً. وعليه، يمكن أن يتحقق هذا التعايش مع أن الاندماج الاجتماعي لهذه الثقافات الأصلية لا يزال محدوداً جداً.
وباستعراض التجارب العالمية في تحديد العلاقة بين البنى التقليدية والرسمية تظهر نماذج مختلفة للتعاون، منها على سبيل المثال:
النموذج الأول: بروز السلطة التقليدية
في هذا النموذج تمثل السلطة التقليدية الحكومة المحلية في المناطق الريفية حيث لا يزال المجتمع تقليدياً جداً، كما وأن هناك بعض الروابط النظامية وغير النظامية بين الحكومة المحلية التقليدية والحكومة الحديثة على الصعيد الوطني و/أو الصعيد المحلي. هذا، وقد تتمتع الحكومة الوطنية بحق إدارة القيادة التقليدية. وعليه، تحظى المناطق الحضرية ذات البنى الحديثة بحكومة محلية حديثة.

 النموذج الثاني: هيكليات منفصلة وتفاعلات مختلفة على الصعيد المحلي والوطني
وضعت بعض الدول بنية رديفة في مختلف مستويات الحكومة؛ فمجلس الرؤساء يمارس بعض الحقوق على المستوى المحلي والوطني كما يضطلع بوظيفة استشارية على الصعيد المحلي و/أو الوطني، كما/أو يستوجب استشارته حول مسائل متعددة.
 وفي بوتسوانا، يشكل ذلك الشكل الشائع للاندماج حيث يتوفر مجلس رؤساء لا يتمتع بسلطة أو نفوذ ذي شأن، إنما يؤخذ في الاعتبار مكانة الرئيس. فقد عُزي إلى رئيس الجمهورية سلطة الاعتراف بالرؤساء، وسلطة تعيينهم وعزلهم وحرمانهم من ممارسة سلطتهم. ومن مهام الرئيس تحضير مراسم وتشريفات القبيلة، والمساعدة في ضبط الجرائم، وتعزيز رفاهية القبيلة، ورئاسة الاجتماعات. إلا أن القانون يفرض على كل رئيس تنفيذ التعليمات التي يمليها عليه الوزير. وتجدر الإشارة إلى أن الرؤساء يتقاضون راتباً، كما وتحظى الدولة بسيادة كاملة على القادة التقليديين.   
أما في غانا، فيضطلع القادة التقليديون بدور استشاري في المسائل التنموية، على الصعيد المحلي والوطني. إلا أنه يحظّر عليهم المشاركة في السياسة خارج إطار دورهم المحدود. فعلي الصعيد الوطني، يمثلون بشكل رئيس هيئة استشارية تُعنى بالمسائل المتعلقة بالرئاسة، علاوة أنه يُفترض بهم تطوير وإدارة نظام خاص بالقانون العرفي، رغم أن ذلك لم يتحقق بعد.
النموذج الثالث: السلطة الرسمية للسلطات التقليدية على المستوى المحلي
          في هذا النموذج، يضطلع الرؤساء بوظيفة واضحة وجلية في الحكومة المحلية، بصفتهم جزءاً أو أكثر من هيئات الحكومة المحلية. ومن الممكن أن يتم ذلك من خلال مقاعد محجوزة لأشخاص معينين أو عبر السماح للقادة التقليديين (أو تشجيعهم) بالترشح لبعض المناصب المحلية.

 
          إن الفائدة من هذا النموذج، مقارنةً بنموذج البنية المزدوجة، هي أنه يدمج القادة التقليديين بالكامل داخل بنى الحكم المحلي الحديثة، وبالتالي، لا تكون سلطاتهم واعتباراتهم رمزية فحسب. أما السيء في الأمر هو أن الممثلين التقليديين والرسميين، يحكمون داخل نطاق البنية الاجتماعية عينها، مما قد يخلق نزاعات وخلافات. إلا أنه، وفقاً لما ذُكر آنفاً، فإن اندماجهم الحقيقي قد يزيد من قدرة تنفيذ البنى الحديثة بما أن القادة التقليديين يشكلون جزءاً من عملية صنع القرار، وبالتالي يوفر لهم الشرعية المطلوبة للسياسات قيد البحث.
النموذج الرابع: القادة التقليديون يخدمون كهيئات استشارية للحكومة المحلية

          لم تقدّم بعض الدول للسلطات التقليدية دوراً في صنع القرار النظامي، بل شكلت هيئة خاصة أو اتخذت إجراءات خاصة بهدف ضمان تحقيق وظيفة استشارية أو بغية استشارة السلطة التقليدية قبل اتخاذ أي قرار.

  
وفي هذا النموذج قد تشكل الحكومة لجنة مشتركة مؤلفة من الحكومة المحلية والقادة التقليديين، والتي تركز على سياسات معينة، على غرار البيئة والصحة والممارسات الاجتماعية، والنوع الاجتماعي (الجندر)، وتجميع الأموال للمشاريع التنموية والصحة والتعليم. وعليه، يمكن للحكومات المحلية تشكيل هيئات تشاركية مؤلفة من المواطنين وتركز على القادة التقليديين، أو توسيع نطاق الهيئات السائدة بحيث تضمّ القادة التقليديين.
أما الأثر السلبي لهذا النموذج فهو أن البنى التقليدية لا تؤدي دوراً رسمياً في صنع القرارات، وبالتالي يكون نطاق مشاركتها محدوداً. وقد يؤدي ذلك إلى إحباط ونزاعات إذا تجاهلت الحكومات النصائح التي تقدمها هذه البنى. إلا أنه، في الحقيقة، يبدو أن عدداً غفيراً من الحكومات المحلية تعجز عن اتخاذ قرار في مسألة معينة، ويكون يتعارض مع إرادة السلطات التقليدية لأنها تعلم أن هذه السلطات ستحتاج إلى دعمها.
النموذج الخامس: القادة التقليديون معنيين بشكل غير رسمي في برامج فردية تنموية
قد يكون القادة التقليديون معنيين بشكل غير رسمي ببرامج وسياسات ومشاريع فردية إنمائية تنظمها الحكومة والمجتمعات والمنظمات غير الحكومية. وفي مرحلة التخطيط التشاركي، يصبح عندها القادة التقليديون من بين العديد من الأطراف المعنية الآخرين على المستوى المحلي، وبإمكانهم أيضاً وضع وتنظيم مشاريع إنمائية. ووفقاً لنهج التنمية المحلية، غالباً ما تُعزى إلى فئات المجتمع المحلي صلاحية الرقابة على عملية التنمية، حيث يشكل القادة التقليديون من بين العديد من الأطراف الفاعلة الآخرين، على غرار المسئولين المنتخبين أو غير المنتخبين، والحكومات المحلية، وممثلي الوكالات، والمنظمات المجتمعية، والمنظمات غير الحكومية. وإحدى العناصر الجوهرية للتنمية المحلية هي تعزيز دور المجموعات المحلية وتسهيل اقتناء المعلومات من المستوى المحلي والوطني على حدّ سواء، وبين مختلف المجموعات القائمة في كنف مجتمع واحد. والهدف لا يتعلق إلى حدّ بعيد بالإدماج النظامي، على غرار تعزيز الروابط القائمة بين مجموعات المجتمع المحلي والحكومات بهدف استحداث بيئة مؤاتية للإصلاح السياسي والمؤسساتي، بما فيها اللامركزية.
 إن الفرق الرئيسي الكائن في هذا النموذج والمختلف عن النماذج المذكورة آنفاً، هو أن القادة التقليديون لا يُعاملون أو لا يُنظر إليهم كجهات تتفوق على مصالح أخرى وعلى مجموعات أخرى في المجتمع المحلي، بل يُعتبرون كطرف من الأطراف الفاعلة.

 
القسم الثالث
دور البنى التقليدية في التنمية المحلية


من منظور التنمية، يتعين على الحكم المحلي تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين وتحسين ظروفهم الاقتصادية والاجتماعي على السواء. وإحدى أبرز أهداف التنمية يرتكز على تخفيض الفقر وتحسين ظروف المعيشة الأساسية لأكثر شرائح المجتمع تهميشاً وحرماناً. وعليه، يُفترض أن إدماج السلطات التقليدية في الحكم المحلي سيخدم هذه الأهداف ويعززها. أما المعايير الضرورية لقياس نجاح إدماج البنى التقليدية في الحكم المحلي فهي أنها باتت أكثر فعالية وشمولية واستجابةً تجاه كافة فئات المجتمع، وخصوصاً الفئات الأقل حظاً والأكثر حرماناً.
وبحسب ما تمّ مناقشته في الأقسام السابقة، قد تكون السلطات التقليدية أكثر قدرةً على تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، إذ تتمتع، بنظر الشعب، بشرعية للحكم تفوق أهميةً تلك التي تحظى بها الإدارات الحكومية المحلية، مما يعني أن القرارات التي تتخذها السلطات التقليدية ستتسم بنجاح يفوق نجاح السياسات التي تتخذها تلك الإدارات الحكومية المحلية، وبالتالي تغدو هذه السلطات في موقف أفضل لتعبئة الموارد البشرية والمالية الضرورية لمصالح عامة الشعب أو لمشروع إنمائي. إلا أنه في حال عجزت السلطات التقليدية عن الاستجابة للاحتياجات المحلية، لا تتمتع عندها بصلاحية أكبر من السلطات الحكومية لتولي الحكم المحلي. ونتيجة لذلك، يزداد الفساد والحكم المبني على منطق "خدمة الزبائن" في حال لم يتم وضع آليات لرصد هذا الحكم ومساءلته أو في حال لم تُنفّذ على النحو الجيد.
إن معظم الدول التي تعترف رسمياً بالسلطات التقليدية، تحظى بفرع في الحكومة يُعنى برصد نشاطات القادة التقليديين. وغالباً ما يضطلع الوزير المعنيّ بالمسائل المحلية أو اللامركزية، بمسؤولية الإشراف على السلطات التقليدية ومراقبتها.

 وظائف الحكومات المحلية
إن إدماج السلطات التقليدية في وظائف جديدة للحكم المحلي لا يتحقق سوى مع البنى التقليدية الفاعلة والقيادة التقليدية، مع ملاحظة أنه يجب أن تتوفر، في الوقت نفسه، آليات تضمن تحقيق الاستجابة والمساءلة. وفي حال لم تتواجد بنى تقليدية قوية، تشكل عندها عملية إنشاء أو إعادة إنشاء السلطات التقليدية تجربة في التغيير الاجتماعي يصعب تبريرها من وجهة نظر ديمقراطية. وإذا استحال وضع آليات مبنية على المساءلة والاستجابة، يزداد عندها خطر انتشار الفساد وسوء ممارسة السلطات التقليدية للسلطة بحيث يصعب تبرير تمديد دور هذه السلطات عن طريق المؤسسات الحكومية.
الجدول رقم (1)
 السياسات المحلية والدور الذي قد تؤديه السلطات التقليدية

نطاق السياسة
السياسات
دور السلطات التقليدية
السياسات النظامية
- تنظيم المعايير والبنى الاجتماعية والاقتصادية والدينية في أغلب الأحيان.
- حلّ النزاعات والخلافات، والتسييس.
- التخطيط والتنمية المحلية.
- إدارة الموارد الطبيعية.

- الوظائف التقليدية للسلطات التقليدية. احتمال وقوع نزاعات حول المصالح في ما يتعلق بالتنمية المحلية وإدارة الموارد.    
سياسات التخصيص والتوزيع، وإعادة التوزيع
- تخصيص الأراضي المشاع.
- البنية التحتية (مثل، الطُرق، والجسور، والكهرباء والماء، إلخ.)
- الخدمات الأساسية (الصحة، والتعليم، إلخ.)
- تنفيذ سياسات وطنية أخرى.
- جباية الضرائب وتحصيل الموارد
- يعتمد دور البنى التقليدية على أمور معقدة وعلى مهارات خاصة ضرورية.
السياسات الإدارية
- إدارة المواطنين، وتسجيل الناخبين، وإصدار شهادات الميلاد والوفاة، وتسجيل الأراضي، إلخ.
- مهارات ضرورية للحكومات المتخصصة "الحديثة". غياب الحقل التقليدي للسلطات التقليدية.


         


الجدير بالذكر أن العديد من الوظائف النظامية هي وظائف تقليدية خاصة بالسلطات التقليدية.

-   إن تنظيم حياة المجتمع الاجتماعية والدينية والمحافظة على الأمن الاجتماعي يشكلان إحدى أبرز المهام التي تتولاها السلطات التقليدية.

-   فضّ النزاعات. وتشكل هذه الوظيفة إحدى أهم المهام التي يضطلع بها القادة التقليديين. وتجدر الإشارة إلى أن الأشكال التقليدية الخاصة بحلّ النزاعات تقف على حدّها إذا وقع النزاع أو الخلاف بين القيم التقليدية والحديثة.

-   التخطيط والتنمية المحلية. إن التنمية والتخطيط يشكلان نسبياً المهام الجديدة التي يجب أن تضطلع بها الحكومة المحلية. ووفقاً للأمور المعقدة التي يواجهها المجتمع ولعدد المجموعات المنظَّمة الأخرى على غرار المنظمات أصحاب المصالح، والمنظمات المجتمعية، إلخ...، سيكون من المهم إدماج أكبر قدر ممكن من منظمات المجتم المحلي. وقد تكون السلطات التقليدية فقط من بين العديد من الأطراف المعنية في عملية صنع القرارات وتنفيذها.

-   إدارة الموارد الطبيعية (على غرار الماء واستخدام الأراضي) هي من بين الوظائف المستدامة التي تضطلع بها السلطات التقليدية. وقد برزت مؤخراً حاجةٌ إلى التنسيق في ما بين مختلف المجتمعات المحلية حول إدارة الموارد الطبيعية. إلا أن زيادة عملية التنسيق والإدارة تعقيداً، تتطلب طرح أشكال معقّدة لعملية صنع القرارات والإدارة. وعليه، تستدعي الحاجة إلى طرح الأشكال التقليدية الخاصة بصنع القرار، في حال ظلّت السلطات التقليدية تؤدي دورها في هذه الوظائف. وحالياً، غالباً ما يعجز المجتمع عن معالجة المشاكل البيئية معالجة حصرية، لأن أسباب هذه المشاكل لا تقتصر فقط على هذا المجتمع بالذات.


إن بعض مجالات سياسات التخصيص والتوزيع وإعادة التوزيع مرتبطة بالوظائف التقليدية الخاصة بالحكومات المحلية، إذ لطالما قامت معظم المجتمعات التقليدية بتنظيم البنية التحتية الأساسية، وتخصيص الأراضي المشاع أو الصحة الشعبية في أنظمة الصحة التقليدية. إلا أن العديد من هذه الوظائف قد انتقلت إلى الوزارات المتمركزة في مختلف عواصم البلاد، مما يتطلب تكييفها مع البيئة المحلية وتنفيذها على المستوى المحلي. 

أولا: تخصيص الأراضي
إن توزيع الأراضي المشاع على الأفراد، بالإضافة إلى الحقوق والواجبات المرتبطة بتخصيص الأراضي، تصبّ كلها في إطار الوظائف التقليدية التي تضطلع بها السلطات التقليدية. كما وأن الأرض وإصلاح الأراضي يشكلان إحدى أبرز المسائل الخطيرة في التنمية المحلية، وقد تكاثرت المبادرات لمحاولة إصلاح استخدام الأراضي تجاه الحقوق الفردية. إلا أن جعل حقوق امتلاك الأراضي حقوقاً فردية تؤثر سلباً على السلطة التي يمارسها القادة التقليديون على الأراضي، مما يشكل مورداً في غاية الأهمية في المناطق الريفية حيث يعتمد معظم الناس على زراعة الكفاف. والجدير بالذكر أن بيع الأراضي الشعبية يشكل إحدى أهم النشاطات التي تدرّ دخلاً على القادة التقليديين، فيستخدمونها لمصلحة الشعب المحلي ولمنافعهم واحتياجاتهم الشخصية على حدّ سواء. لذلك، تشكل السلطات التقليدية إحدى أبرز العقبات التي تواجهها عملية إصلاح الأراضي في الدول النامية.
 
ثانيا: توفير البنية التحتية الأساسية
يقدّم كل مجتمع على حدة بنية تحتية أساسية لسكانه وآليات لتعبئة الموارد على غرار الماء، والطرق، والصحة العامة، والتخلص من النفايات والمياه الآسنة، وذلك بشكل استخدام اليد العاملة التي تُعنى ببناء هذه البنية التحتية والمحافظة عليها. ومن الناحية النظرية، يمكن للسلطات التقليدية إدارة أي شكل من أشكال البنية التحتية. أما الفائدة من ذلك فهي أن السلطات التقليدية تحظى في الغالب بسلطة تعبئة الموارد المحلية بهدف المحافظة على المصالح العامة، في حين يُتوقع أن تقوم الدول بتعبئة الموارد من مصادر خارجية. إلا أنه مع تزايد تعقيد وتقنية عملية بناء البنى التحتية، تستدعي الحاجة إلى معرفة أكثر تخصصاً، بالإضافة إلى استثمارات في الأنظمة المالية والرأسمال البشري.

ثالثا: الخدمات الرئيسية الصحة والتعليم)
في معظم الأحيان، يتساوى الطب التقليدي مع الخدمات الصحية الحديثة المتوفرة للسكان المحليين، كما أنه قد يتفوق عليها أحياناً إذ أن تأمين خدمات صحية حديثة والتعليم يتطلب مهارات فنية وموارد مالية تعجز السلطات التقليدية عن تأمينها.

رابعا: توزيع الموارد المالية، وجباية الضرائب وتحصيل الموارد
تحتاج العديد من المهام الحديثة التي يتم توليها على المستوى المحلي، إلى التمويل؛ والجدير بالذكر أنه، في بعض الدول، تقوم الحكومة المحلية بجمع الموارد لصالح الحكومة المركزية. إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنها مهمة جديدة تتولاها السلطات التقليدية، فقد سبق أن شكلت بعض السلطات التقليدية جزءاً من النظام المالي القائم بين الحكومات، ذلك أنها كانت تقوم بتعبئة الضرائب والموارد المحلية بالنيابة عن السلطة المستعمرة. وحتى حالياً، يمكن للسلطات التقليدية أن تكون أكثر قدرةً من الدولة على تعبئة الموارد المالية والبشرية. لكن حين تحظى أو تضطلع السلطات التقليدية بدور في نظام التحويل المالي ما بين الحكومات، تستدعي عندها الحاجة إلى وضع أنظمة لرصد الفساد.
أما الوظائف الإدارية فتمحور حول إدارة المواطنين، فمع تفاقم التعقيدات المجتمعية، يتعين على الحكومات تقديم خدمات إدارية إلى المواطنين بشكل متزايد. فشهادات الميلاد والوفاة والزواج والطلاق، والسجلات الانتخابية، ومخططات الأراضي، إلخ... تتطلب باستمرار تحديثها، كما ويتعين عليها أيضاً إصدار جوازات السفر وتأشيرات الدخول إلى الدول وغيرها من الوثائق. ويتطلب ذلك كله بنية تحتية حديثة، بالإضافة إلى رأسمال بشري وموارد مالية بغية المحافظة على النظام. 
إن قدرة أو عجز السلطات التقليدية عن إتمام مختلف الوظائف التي تضطلع بها الحكومات الحديثة، يتوقف على درجة التعقيدات وعلى المهارات الجديدة الضرورية لتنفيذ هذه المهمة. هذا ولا يٌقصد بدرجة التعقيدات، التعقيدات المجتمعية التي تواجهها المجتمعات المحلية، بل تعقيدات الوظائف الحديثة مقارنة مع الوظائف التقليدية. فبعض الخدمات، على غرار تأمين شبكة الكهرباء، تتطلب معرفة أو مهارات تقنية تفتقر إليها عادةً السلطات أو المجتمعات التقليدية. وعليه، يتعين إما بناء القدرات في هذه المناطق، أو استخدام خبراء من الخارج لتنفيذ هذه الوظائف. إلا أن ذلك لا يعني أن السلطات التقليدية تعجز عن التحكم بالوظائف الجديدة على نحو شامل، بل ينبغي بناء القدرات لتنفيذ الوظائف الجديدة، بغضّ النظر عما إذا كانت الحكومات المحلية تدخل في إطار النظام الحكومي، أو أي شخص آخر معنيّاً بتنفيذ هذه الوظائف. فإن ضمّ السلطات التقليدية إلى الوظائف الجديدة سيدمج على الأرجح المعرفة والممارسات التقليدية في تأمين البنية التحتية والخدمات.
إن تدخّل السلطات التقليدية في الوظائف المحلية يعتمد أيضاً على الحاجة إلى التنسيق وإلى سياسة التكافل. فالحكومات الوطنية كافةً تصرّ على تنسيق بعض السياسات على الصعيد الوطني، مما لا يترك عادةً مجالاً واسعاً أمام صنع القرارات على الصعيد المحلي. وبحسب ما ذُكر آنفاً، يستحيل في الغالب تنسيق إدارة الموارد الطبيعية داخل المجتمعات الصغيرة، كما يستحيل في الوقت عينه، تنفيذ السياسات الوطنية من دون تدخّل السلطات التقليدية. والجدير بالذكر أن السلطات التقليدية هي التي بامكانها إقناع السكان المحليين بفوائد بعض السياسات الحديثة. لكن الجدير بالذكر أنه حتى بالنسبة إلى السياسات الجديدة المعقدة، تعتمد الحكومات الوطنية والسلطات المحلية على بعضها البعض. ولقد تبين أن تدخّل السلطات التقليدية في عملية صنع القرارات وتنفيذها، يضمن استمرارية السياسات المحلية واستدامتها بنسبة أكبر وأهم من أن يتم استبعاد هذه السلطات التقليدية من عملية صنع القرارات.
ولفترة زمنية طويلة، تمكنت السلطة التقليدية من تنظيم حياة الأفراد على المستوى المحلي.  وبما أن المجتمعات التقليدية كانت في معظم الحالات متمركزة في المناطق الريفية ذات الاقتصاد الأُسَريّ، انغمس القادة التقليديون بالمشاكل العملية المتعلقة بالزراعة وإدارة الموارد الطبيعية. لقد تولت السلطات التقليدية تنظيم الأنشطة الاجتماعية، كما اتخذت في معظم الأحيان صفة القضاء لفضّ النزاعات في حين كانت تتخذ في الوقت عينه صفة القائد الروحي/الديني.
وعلى أثر تزايد ظاهرة التحديث، طُلب من السلطات التقليدية تنظيم مسائل سياسية واجتماعية واقتصادية أكثر تعقيداً. ففي أوروبا مثلاً، كانت السلطات التقليدية معنية بنشاطات اقتصادية مختلفة، كما تولّت تنظيم النظام المالي والاقتصادي. لكن مع مرور الوقت، عجز القادة التقليديون عن معالجة التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة والسائدة في المجتمع؛ وعليه، استُبدلت بأشكال أكثر ديمقراطية وشمولية خاصة بعملية صنع القرارات.


وقد تؤدي السلطات التقليدية دوراً مختلفاً في تنفيذ هذه المهام. فبإمكانها أن تكون السلطة الوحيدة التي تُعنى بالتخطيط وصنع القرارات وتنفيذها على المستوى المحلي، كما يمكنها أيضاً الاندماج في الحكومة المحلية القائمة، أو تأدية وظيفة استشارية محدودة. أما الأدوار التي تضطلع بها فهي تعتمد على عناصر مختلفة:

-   في حال تحوّل مجتمع ما من زراعة الكفاف إلى طرائق حديثة مبنية على الإنتاج الاقتصادي، يتوجب على الحكومة المحلية توفير المزيد من الخدمات، والأنظمة بالإضافة إلى تعزيز إدارتها. وفي حال باتت هذه الوظائف تشكل جزءاً من السلطة التقليدية، يتحوّل عندها كيان السلطة التقليدية بذاتها إذ تكتسب عندها أدوار لم يسبق أن اضطلعت بها من قبل.
-   مع تحقّق اندماج المجتمع على صعيد واسع في عالم تستحوذ عليه العولمة، تزداد الوظائف حجماً وتعقيداً. هذا وكلما اندمج المجتمع في سلسلة الإنتاج الصناعي، انخفضت معه نسبة بروز السلطة التقليدية كوسيلة مناسبة لصنع القرارات.
-   يعتمد دور السلطات التقليدية على وظائف مختلفة. فلطالما شكلت الوظائف التنظيمية مَهمَّة رئيسية للسلطات التقليدية، في حين تصبّ بعض وظائف التوزيع وإعادة التوزيع في إطار الوظائف الحديثة. هذا وتضطلع مسألة الاستجابة والمساءلة تجاه السكان المحليين بأهمية أكبر، وفقاً لقدر الموارد المستخدمة.




شروط وظروف إدماج السلطات التقليدية

لا يوجد أي نموذج يمكن الأخذ به بصورة آلية حول إدماج السلطات التقليدية والحديثة، فكل محاولة لإدماج السلطات التقليدية يتطلب النظر بإمعان في البنية الاجتماعية-السياسية على المستوى المحلي. ويتمحور الأمر حول مسألة ما هو نظام الأفكار والقيم الذي يشكل رؤية محلية شاملة، والذي يؤثر على سلوك عامة الشعب وكيفية تداركهم للتدخلات الخارجية المنشأ؟ وعليه، تستدعي الحاجة إلى معالجة جانبَين ألا وهما، البُنى الحكومية المحلة والسلطة التقليدية. وعندها، يتوجّب الأخذ في الاعتبار الأسئلة التالية:

-   ما هي بنية الحكومة المحلية، وما هي مواردها، وكيف يُمكن تحديد أداءها؟ ما هو المستوى الذي تسجله في المساءلة، والاستجابة والشفافية؟ ما هو مستوى لامركزية الدولة، وما هي أبرز وظائف الحكومة المحلية؟ وإلى أي حدّ قد تكون مستقلة عن الدولة؟
-   ما هي طبيعة، وتاريخ، وشرعية البنى التقليدية، وكيف هو أداؤها؟ هل إن السلطة التقليدية متجذرة في تاريخ المجتمع، وما هي التأثيرات والتحوّلات الأخيرة التي طرأت؟ ما هي الوظائف الراهنة التي تضطلع بها السلطات التقليدية؟

وتستوجب الإجابة على هذه الأسئلة توفر كثير من المعطيات الخاصة بكل مجتمع على حدة، ذلك أن قضية تنمية الحكم المحلي تستوجب توفر موارد مالية وبشرية مستدامة (على غرار، أشخاص يتمتعون بمهارات تخوّلهم أداء وظائف الحكومة المحلية). كما يجب ربطها بالسلطة البنيوية أفقياً وعمودياً على حدّ سواء. والأهم من ذلك أن ذلك سيتطلب المزيد من الوقت والصبر حتى تتمكن الحكومة المحلية وممثلوها من اكتساب الخبرات، وحتى يعتبرهم السكان سلطة مناسبة.
ويلخّص الجدول رقم (2) مختلف أشكال الاندماج بين البنى التقليدية والحديثة، وفقاً لأدائها. ويرتكز الجدول على افتراض أن السلطات التقليدية تحظى بمستوى عال نسبياً من الشرعية بنظر السكان المحليين. وكقاعدة عامة نقول أنه من غير المجدي الاعتماد على البنى التقليدية إذا لم يتم اعتبار السلطات التقليدية سلطات شرعية في المقام الأول.



الجدول رقم (2)
 إدماج السلطة التقليدية وأداء الحكومات المحلية


أداء السلطة التقليدية
أداء الحكومة المحلية
مرتفع
منخفض
مرتفع
تعاون بين الحكومة المحلية واندماج السلطات التقليدية ممكن تحقّقه.
تعزيز الحكومة المحلية وتحويلها، دور محدود للسلطة التقليدية.   
منخفض
قد تتخذ السلطة التقليدية صفة الحكومة المحلية، تحول تدريجي.
هناك حاجة إلى إنشاء حكومة محلية جديدة، مما يتطلّب موارد كثيرة ووقتاً كافياً. 

يمكن استخلاص أربع حالات من هذا الجدول، وذلك على النحو التالي:

-   في حال كان أداء الحكومة المحلية الحديثة والسلطة التقليدية أداءً جيداًً، عندها يكون  التعاون بينهما مناسباً، وقد يتمّ ذلك من خلال الإدماج النظامي و/أو الإجراءات الاستشارية النظامية وتأييد السلطة التقليدية، أو عبر تفويض إدارة الموارد.

-   أما إذا كان أداء الحكومات المحلية منخفضاً، وشرعية السلطة التقليدية وأداؤها منخفضاً، فإن إيلاء السلطة التقليدية دوراً أهمّ وأعظم في الحكم المحلي قد يكون الحلّ الأنسب في هذه الحالة. هذا وإن إقامة الدولة على المستوى المحلي يستوجب توفير نوع من الموارد التي لا تتوفر عادة لدى حكومات الدول النامية؛ لذلك، فإن الاعتماد على بنى متوفرة يمكن أن يخفف الطلب على الموارد المحدودة.

-   وإذا كان أداء الحكومات المحلية مرتفعاً لكن منخفضاً بالنسبة إلى السلطات التقليدية، هناك احتمال كبير أن تقوم المؤسسات الحديثة بإنشاء حكم على المستوى المحلي وبتعزيز التنمية المحلية. والجدير بالذكر أن ذلك لا ينبغي استبعاد مشاركة فئات مختلفة إلى ما بعد الانتخابات، حيث يمكن أن تكون السلطة التقليدية من بين شركاء عديدين في الحكم المحلي والتنمية المحلية.
-   وفي حال افتقرت البنى التقليدية والحكم المحلي على حدّ سواء إلى الفعالية، تستدعي الحاجة عندها إلى تشكيل حكومة محلية من المرحلة الأدنى إلى الأعلى. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحالة تظهر على الأرجح في المجتمعات التي تشهد نزاعات أو سبق أن شهدتها في فترة زمنية معينة، حيث دُمّرت البنى التقليدية لكن لم يتمّ استبدالها بعد. وعليه، يزداد الطلب على الموارد وعلى الوقت في هذه الحالة.   



ملاحظات ختامية
إن إحدى أهم العناصر التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند تعزيز دور السلطات التقليدية داخل الحكومة، هي أن التغييرات التي تطرأ على البنى السياسية والاجتماعية السائدة تتسبب بتغيير أدوار مختلف الأطراف الفاعلة. ومن الأهمية بمكان النظر إلى البنى التقليدية بهذه الطريقة المفعمة بالفاعلية، فمع تغير المجتمعات كافةً، تتغير أيضاً البنى التقليدية والقادة التقليديين.
وعلى مرّ السنوات الماضية، شهدت المجتمعات التقليدية تغييرات، كان بعضها جذرياً. إن الاعتراف بشرعية البنى التقليدية وفعالية تحوّلها المستمر مع الوقت يساعد على مناقشة دور البنى التقليدية بانفتاح تام، وعلى تقييمها وفقاً لمعايير عالمية معاصرة مختلفة على غرار الشرعية والإدماج الاجتماعي، والتي يتم التعبير عنها ضمن منظومة الحكم الرشيد.
ومع ذلك، فإننا يجب أن لا نغفل عن إدراك حقيقة أن التدخل في أي نظام سائد قد يساهم بدوره في تغيير فاعلية السلطة المُمارَسة في المجتمع. ومع أن ذلك يبدو سهلاً جداً للإدراك، إلا أنه غالباً ما يتم إهماله في الواقع عند المناقشات التي تدور حول اللامركزية في كثير من الدول النامية. فاللامركزية ليست مجرّد إجراء إداري تقوم به الحكومة، بل أنه في نهاية الأمر انتقال للسلطة من المستوى المركزي إلى المستوى المحلي. إن الاعتراف بالسلطات التقليدية كمصادر شرعية للسلطة في الدستور، قد يعزّز من تأثيرها وأهميتها إزاء الحكومة؛ وقد يكون ذلك مُحبّذاً أو مجديا في بعض الأحيان، على اعتبار أنه قد يساعد المجتمع على الاستقرار أو يجعل التنمية المحلية أكثر استجابةً للاحتياجات المحلية. غير أننا يجب أن ندرك أن لتك العملية تأثيرات طويلة الأمد، على اعتبار أنه بمجرّد تسليم السلطة أو الموارد، يصعب بعدها انتزاعها. 
إن درجة اندماج البنى التقليدية في الحكومة يجب أن تعتمد على درجة أداء السلطات التقليدية وشرعيتها. وفي حال تبين أن شرعية، وشمولية، ومساءلة، والاستجابة للعناصر الجوهرية لحقوق الإنسان والاعتراف بها، تتّسم بالضعف الشديد، عندها لا يبدو مناسباً إيلاء القادة التقليديين دوراً هاماً حتى يتم التأكد أن تلك المفاهيم قد أخذت حضها من التطبيق في المجتمع.





[1]Gorge Lutz & Wolf Linder, Traditional Structures & Local Governance in Local Development, Bern 2003, World Bank Institute
[2] د. فؤاد الصلاحي، الدولة والمجتمع المدني في اليمن، من إصدارات مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان (3)، تعز، 2001، ص41

[3] د. فؤاد الصلاحي، مرجع سابق، ص 47
[4] انجاز سعيد العلالي و جمال البزياني، الإدارة المحلية و إشكالية التنمية بالمغرب (العوائق والآفاق)، منشورات جامعة محمد الأول، وجدة 2004، ص 7
[5] Gorge Lutz & Wolf Linder, Op. cit, p. 5
[6]Bonfigliolo Angelo, Empowering the Poor: Local Governance for Poverty Reduction. UNCDF 2003.p. 46.

[7] Gorge Lutz & Wolf Linder, Op.cit, p. 6  
[9] http://magnet.undp.org/policy/chapter1.htm

[10] http://magnet.undp.org/policy/chapter1.htm

[11] Gorge Lutz & Wolf Linder, Op.cit, p. 18    
[12] Ray, Donald I,“Rural Local Governance and Traditional Leadership in Africa and the Afro-Caribbean: Policy and Research Implications from Africa to the Americas and Australasia,  Calgary: University of Calgary Press 2003. p.132

[13] Ray, Donald.  Ibid, p. 133

[14] Gorge Lutz & Wolf Linder, Op.cit, p. 22  
[15] Gorge Lutz & Wolf Linder, Op.cit, p. 23  
[16] Jesse Rabot, “Local Actors, Powers and Accountability in African Decentralization, International Development Research Centre of Canada, Ottawa 2002. p. 46